كتابات خاصة

راعي في جبل جرة (5)

أحمد عثمان

كانت معركة شرسة استمرت إلى الفجر، سقط فيها شهداء وجرحى، ولأول مرة يقترب فيها الحوثيون ويسيطرون على مواقع من الجبل في جهته الشمالية إلى حد اقترابهم إلى جنب بيت عم عبده نفسه. 9      

كانت معركة شرسة استمرت إلى الفجر، سقط فيها شهداء وجرحى، ولأول مرة يقترب فيها الحوثيون ويسيطرون على مواقع من الجبل في جهته الشمالية إلى حد اقترابهم إلى جنب بيت عم عبده نفسه..
عندما عاد صبري إلى بيت عم عبده بعد ثلاث أيام من المعارك الشرسة فيها حاول الحوثة التقدم أكثر لكنهم عجزوا بعد ما تمترس الشباب من جديد وأعادوا ترتيب قواتهم وكانت خسائر المهاجمين في الثلاث الأيام التي تلت تقدمهم تفوق كل الخسائر، فقد أغراهم التقدم بالسيطرة على الجبل لكن طمعهم تبخر وغرورهم انكسر، والشباب عازمون على استعادة المواقع التي فقدوها، خاصة عمارة  عبد الصمد التي تقع في مكان حساس يقنص العدو منها المقاومين والمدنيين إلى الشوارع البعيدة ويحاصر منها طريق امداد المقاومة إلى الجبل. 
استقبل عم عبده صاحبه صبري ببشاشة زائدة! 
جهز له العشاء، وصلوا معا ثم قدم له الشاهي محاولا أن يطرح نكات ليخرجه من الهم البادي عليه فلم يفلح. 
فتوجه عم عبده إلى صبري قائلا: يا صبري ليش أنت مهموم (مقى) شفتكش كذه!!
زعلان على أصحابك الشهداء، هولاء خالدين وأحياء. 
— لا ياعم عبده مش زعلان رغم فراقهم مؤلم هؤلاء فعلا أحياء.
— طيب إيش زعلك أن الجماعة تقدموا هذه حرب كر وفر.
— لا ياعم عبده هذا التقدم لن يدوم، لقد أوجعناهم وغدا نزيحهم. 
— طيب ليش زعلان؟ أكربتنا.
— زعلان يا عم عبده على الخذلان..
 تدري هذا التقدم للعدو، تم بسبب نفاد الذخيرة، كيف تحارب بلا ذخيرة! تأتينا الذخيرة بالقطارة وأصحابنا في قيادة المقاومة يشحتوا في كل جانب من أجل توفير الذخيرة والغذا للمقاومين. 
 تصور مضت أشهر ونحن نعيش أقرب إلى المجاعة  وأنت عارف كيف يكون حرب وجوع ياعم عبده؛ والله لولا الإيمان والعزيمة لوجدت الجبل وبقية مواقع المدينة قد سقطت زمان!
 هناك خذلان ما ياعم عبده نصبر على الجوع لكن كيف تعمل بالذخيرة. 
 العم عبده وبصوت واثق: هذه هي طريق النصر يا صبري، والله انكم منصورون. 
– صبري: أنا واثق أننا منصورون، لكنني حزين. أنت الآن مشكور عشيتنا وأصحابي في الموقع الأمامي بدون عشاء، تصور ربما يبيتون جياع ومنتظرين العدو! 
يمتعض العم عبده، ويبدو عليه الحزن وينهض خارجا.
— إلى أين يا عم؟
شارجع الآن أنت ارتاح بس.
بعد نصف ساعة تقريبا ينادي عم عبده (صبري) ويطلب منه أن يحمل (الجونية) إلى زملائه 
–  إيش هذه؟ 
— هذه عشاء أصحابك. 
كان العم عبده قد ذبح إحدى أغنامه بعد ما سمع حديث صبري! 
قال صبري: والله لو أنا عارف ما أخبرتك، والله إحراج. 
مش إحراج، هذا واجبنا، أنت مش عارف أنكم أعدتم لي الحياة والأمل بقدومكم بهذه الصورة بعد ما مت منذ مدة. أنا ميت منذ أكثر من ثلاثين عاما و أكثر!!  
أخذ صبري الجونية الملية بلحم الماعز مسرورا ليفاجئ زملاءه بعشاء دسم. 
عندما عاد صبري وجد الراعي عبده مدثرا بغطاء في زاوية من حوش البيت في ليلة مقمرة وهو يسحب دخان ببط من (مداعته)  وقد رسم صورته المألوفة على كرتون أمامه (المرأة و الطفل)، ويستمع بإمعان إلى أغنية أيوب طارش المفضلة. 
يا من رحلت إلى بعيد 
قصر مسافات البعيد
 ياخر الألحان في وتري
 وخاتمة النشيد
يا آخر الأشواق في سهري 
وفي قلبي العميد 
يا آخر الأوراق في زهري 
تساقط في الجليد
يا آخر الأشراق في عمري 
وآخر وجه عيد
لا تدخل النسيان
 أو ما فيك من صمت وبيد 
فلربما عاد الهوى
 و أعادك الله المعيد

إيش هذا ياعم عبده؟ أنت الليلة سارح بعالمك البعيد.
أهلا يا صبري، رجعت هيا ندخل.. برد. 
عندما دخلا الغرفة، فتح العم عبده شنطته الحديد ليخرج اللبان الشحري، ظهرت على باطن الشنطة العلوية صورة مكبرة لشخص، لفتت نظر صبري ليقول: هذه صورة من يا عم عبده قل لي أمانة؟ 
هذه صورة عبد الغني مطهر، واحد اسمه عبد الغني مطهر..
 صبري: عبد الغني مطهر اللي كان عضو المجلس الجمهوري بعد الثورة، وأول محافظ لتعز.
سكت عم عبده، كمن فوجئ بمعلومات صبري ثم قال بتلكؤ: أيوه هو.. وأغلق الشنطة.
و أنت إيش علاقتك به؟  
ولا حاجة، صورة وبس.. قم ارقد.
—   عم عبده: احنا أصحاب، لكنك لا تعاملنا كصديق. 
_  لا. أنت أكثر، أنت أخي وابني. 
— طيب اشتي أعرفك عم عبده على الأقل علاقتك بمطهر والثوار، وأصحابه، وخبرتك التي تظهر في أمور الحرب. 
 والثاني؛ حكاية الصورة التي ترسمها أتخيل أحيانا أنك صاحب قصة حب حزينة. 
–اسمع يا صبري: أنا شاخبرك بكل حاجة بس مش الليلة. المرة الثاني بكرة. 
–بكرة مش موجود عندي مهمة… ؟ 
–تمام عندما ترجع بالسلامة.. يقول عم عبده وهو يدخل بعض الأشياء في شنطته، ويظهر شي ملفوف بعناية. 
قال صبري: و يش هذا؟
–هذا شي أحبه كثيرا، قال عم عبده. منشرحا.. اسمع انا باوصي أن هذا لك وصية بعد موتي يناسبك. 
— إيش هو؟ 
— عم عبده: شتعرفه بعد ما أموت. 
— عمرك طويييل إن شاء الله. 
–المهم يا صبري شكتب عليه هكه ياخذ القلم وبخط متكسر يكتب وهو يضحك
(اذا مت يسلم هذا إلى البطل المقاوم صبري).
— صبري ومادراك انك شتموت قبلي. 
يصمت عم عبده وينظر إلى صبري مليا ويقول: أنا باموت قبلك، انتبه تسيبنا مش ناقص أوجاع يابني!
صبري: الأعمار بيد الله.. لكن اسمع؛
 يأخذ الشي الملفوف ويكتب تحت كتابة عم عبده هذه الجملة: (أنا صبري، اذا استشهدت فهذه الوصية تنتقل  لصاحبي أحمد). 
كان عم عبده يضحك بصوت مرتفع، لكنه فجاءة سكت وأخذ يسرح بفكره.
— صبري: مالك ياعم، إيش في. بإيش تفكر؟ 
–أفكر بالفرق الكبير بيني وبينك.
–إيش من فرق؟  
 موصله الفرق؟ قتلتنا بالطلاسم حقك ياعم عبده 
— شوف الفرق الكبييير.
انا كتبت.( أنا إذا مت …..)
انت كتبت(انا اذا استشهدت…).
هذا هو الفرق بيني وبينك وبين جيلي وجيلك، وهو فرق كبييير..
نحن اعترفنا بالموت وخفنا منه، فربطونا جميعا بلبه وعسكري يحبس مدينة. 
أنتم لم تعترفوا بالموت، شوف كيف فعلتم أعدتم الاعتبار للكرامة وعجزت كل قواتهم عن ان تمارس عنجيتها عليكم هم الآن  يلعنون اليوم التي قدموا بها تعز 
هذا الفرق كبير كبير يا صبري 
— صبري و لهذا ياعم عبده اقلك تقلي من أنت أيها الراعي الكبير  
من أنت ياعم عبده؟؟ 
— أنا الراعي عبده أنا جيل كامل طعن من الخلف وفحست أحلامه تحت البيادات  وخوف الناس و فرقتهم … و أنتم أحييتم كل شي  . 

— أنت الآن تزيد فضولي لمعرفة حكايتك طبعا وحكاية الصورة والولد مهم… يضحك 
— عم عبده :خلاص اتفقنا عندما ترجع . 
– صبري: هذا اذا رجعت. 
بنبرة مرتفعة أقلك: لا.
شترجع انتبه.. أنت الولد اللي بالصورة ومش ناقص وجع منتظرك. 
كان واضحا أن العم عبده قد تغيرت أحواله مع قدوم المقاومين إلى الجبل، و زادت حالته تحسنا، وتخلص من الهم الملازم بصداقة صبري، وكأنه أزاح كميات من الحزن كانت تلازم الراعي الغامض.
في الصباح، ودع العم عبده صاحبه صبري الذاهب الى مهمة جديدة، على أمل أن يعود قريبا ليبوح له بماضيه وغموضه.
يتبع…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى