ولدنا، ونحن لا نعرف التفريق بين سوريا وفلسطين، وتبنينا تسمية “سوريا الكبرى”، لتظلّ فلسطين في موقع القلب من جغرافيتنا، وليظلّ عزّ الدين القسام الاسم الألمع في تاريخنا الحديث. لكن قبل التاريخ والجغرافيا كان الفلسطينيون بيننا، في كل قرية وبلدة ومخيم، وكان نصيبي منهم قبيلة من نبلاء الروح، أولهم ابن قريتي زميل المدرسة الابتدائية رشاد الكرمي ابن العائلة التي اشتُهرت عربياً في القرن الماضي، من خلال برنامج ثقافي في الراديو العربي، لهيئة الإذاعة البريطانية بي بي سي.
وفي مرحلة الدراسات العليا وضعتني الصدف، مع أرقّ، وأنبه فلسطيني عرفته، وهو فوزي الحاج صاحب النكتة اللمّاحة، والذكاء المتقد. كنت أظنّه مثلي لن ينفع في السلك الأكاديمي الذي يحتاج، إلى الكثير من الرصانة، وتصنّع الجدية، لكنه خيّب ظنّي، وصار أكاديمياً لامعاً بأبحاثه المبتكرة، وتمّ اختياره عميداً لكلية الآداب، في جامعة الأزهر في غزة.
أمّا الأديب الذي عرّفني على الروح الفلسطينية الحقيقية، فهو الكاتب الراحل أميل حبيبي صاحب رواية “الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل”، وكنت قد انتقدته انتقاداً مرّاً، هو وسميح القاسم في مقالات لي بكتاب “عكس التيار… مشاغبات ثقافية معاصرة”، لكن ما إن عرّفني عليه الصديق المشترك، والمثقف المغربي الكبير محمد بن عيسى في منزله ذات صيف، في إحدى مهرجانات أصيلة، حتى تعانقنا كأصدقاء قدامى، وما لبث أن شدّني من يدي بعنف، وانتحينا عن زحام المثقفين جانباً، وسألني ضاحكاً: “بس بدي أعرف كيف عرفت أنو عندي مركب في حيفا”.
وكان هذا المركب في قلب الانتقادات التي كنا نوجهها لأميل حبيبي، وتقوم على فرضية أن الشيوعي بروليتاري معتر لا يملك شيئاً، وليس من المعقول أن يمتلك حماراً، فما بالك بقارب ضخم في البحر الأبيض المتوسط!
وما زلت أضحك لليوم، وأنا أتذكر الطريقة التي وصف بها أميل حبيبي ذلك اليوم قاربه المُخلّع الصغير الذي بالكاد يشتغل، وبما فوق الكاد كان يجد له المازوت، ونحن اعتبرناه، دون التأكد من تفاصيله “يختاً”، وتهمة تقتضي القصاص من مرتكبها.
أيامها كان فريق منا، نحن “المثقفين السوريين المعترين” يعتبر البقاء في فلسطين المحتلة تحت سلطة الإسرائيليين، جريمة أكبر، من جريمة امتلاك شيوعي لقارب، وحكاية انتقاد سميح القاسم، ومحمود درويش بعنف وفظاظة، حين خرجا تحت العلم الإسرائيلي، في مهرجانات دولية من القصص المشهورة في أدبيات السبعينات، ولطالما اُضطرا، للدفاع عن ذلك الموقف، أمّا أميل حبيبي الذي تحدّى “ديماغوجيا” تلك المرحلة، وطلب أن يُكتب على قبره “باقٍ في حيفا”، فكان يرى أن ذلك هو الموقف الطبيعي الوطني والإنساني، وها نحن اليوم، مع نكبات التهجير القسري المتتالية في سوريا وفلسطين، نُدرك جذرية ذلك الموقف المُشرّف الذي جعلتنا أزمنة التضليل الإعلامي، للأنظمة التي تتاجر بقضية فلسطين، نعتبره الموقف الخاطئ، مع أنه الموقف الأصحّ، في مسار النضال الوطني لأيّ شعب.
وكنت أظنّ لعمر مديد أني لا أعرف شعباً معجوناً بفلسطين، كالشعب السوري، ثم أتت حقبة خلط الأوراق، خلال الثورة السورية، فصرنا نشكّ بكلّ شيء خصوصاً بعد ما شهدناه من ارتكابات أوغاد جماعة أحمد جبريل، وجيش التحرير الفلسطيني بحقّ ثوّار سوريا.
صحيح أننا رأينا تدمير مخيم اليرموك بأم أعيننا عقوبة، لمَن شاركنا من الفلسطينيين في حلم الحرية والكرامة، وصحيح أننا رأينا حفرة التضامن تضمّ السوريين والفلسطينيين معاً، لكن المواقف السياسية لعرّاب أوسلو أبي مازن، وبعض الفصائل الفلسطينية ظلت تنكأ جرحاً عميقاً يأبى أن يندمل، وذاكرة مجروحة لا تريد أن تنسى.
وتأتي حرب غزة الأخيرة، فنجد أنفسنا، دون طويل تفكير في قلبها، وأجدني قبل كل شيء في الثامن من أكتوبر – تشرين الأول ٢٠٢٣، ومع أول قصف يطال المدينة أبحث عن حساب الدكتور فوزي الحاج، في مواقع التواصل، لأطمئن عليه، وعلى أسرته، وأكتب له بعجالة: “كيف أنت أيها الفتى، عسى أن تكون بخير، أو شبه خير أنت والأسرة الكريمة؟”.
وليس من عادة فوزي أن يتأخّر في الرد بنكتة، أو ببيت من الشعر الذي يحفظ منه الكثير، لكنه هذه المرة لم يرد، رغم مضي ثلاثة أسابيع على تلك الرسالة القصيرة، ولا أدري حتى الساعة، هل هو حيّ، فأهنيه وأواسيه، أم هو شهيد، فأحسده وأرثيه؟.
في سوريا وفلسطين فقط تسوّي الطائرات بيوت المدنيين العزّل بالأرض، كي يضيع من تحت الردم، ويتعذر الإحصاء، فلا يدري العالم عدد الضحايا، ولا كم من الأطفال بينهم، وها هو المتحدث الرسمي لليونيسيف يقول صباح اليوم – آخر يوم في أكتوبر – وأنا أضع اللمسات الأخيرة على هذا المقال: إن غزة صارت مقبرة للأطفال، فهل أنت، وبعض أحفادك يا فوزي بينهم؟…
تلحلحْ يا صديقي… رد على الإيميل يا رجل.
نقلاً عن صحيفة “العربي القديم” تشرين الثاني/ نوفمبر 2023