وبما أن رمضان شهر العودة إلى حيث ينبغي، بما تحمله دلالات مجيئه الأول، بل مجيء الإسلام بكله كما أسلفنا، فلعل واحدة من هذه العودات الأهم لمسلمي اليوم هي عودة الاعتبار للجسد/ الجسم! وبما أن رمضان شهر العودة إلى حيث ينبغي، بما تحمله دلالات مجيئه الأول، بل مجيء الإسلام بكله كما أسلفنا، فلعل واحدة من هذه العودات الأهم لمسلمي اليوم هي عودة الاعتبار للجسد/ الجسم!
ذلك أننا قد أترفنا في النظر إلى دونية الجسد، وترافقه الدائم مع الشهواني والهابط، وحضوره المستدام برفقة إبليس، وتحويل مجرى الدم فيه إلى مجاري للشيطان، ووضعه في قائمة الاتهام بل الإدانة، وضمن الجمرات التي ينبغي رجمها على الدوام!
والغرابة أنه لا أحد سوي على الإطلاق بإمكانه استعداء الجسد، وهو ما هو عليه؟! ذلك أنه في أقل أحواله الوعاء الذي يحتوي الروح، والحضور الذي يجسد المعنى، والراحلة التي تمضي بالعقل والقلب إلى مستقر الحياة.. وشيء بهكذا أهمية، لست أدري كيف تم الاستهانة به، أو مواراته من قائمة الأولويات، أو التزهيد فيه وجعل الصوم شكل ما من أشكال العقوبة له، أو التشذيب له بما يحتمله المصطلح من فكرة رديئة عن طبيعة تدني الجسد!
ولعل الفصل بين بعدي الانسان الروحي والمادي، والذي ربما كان في البدء فكرة هامة لمزيد من المعرفة والتوضيح والتفريق قد اتخذ بعدا عنصريا غريبا ضمن كيان الانسان الواحد فغدا الروح خير من الجسد، والمعنى خير من المبنى، ولست أدري أصلا كيف تمكنت فكرة الفصل النظرية من الاستفحال في الواقع والسيطرة عليه، حتى تحول الانسان ذاته إلى قشور ولباب!
والحقيقة أن الصيام يتبدى كمثير مهم لإدراك أهمية الجسد، ولافت عميق إلى محورية هذا الكيان، ولسعة خفيفة تذرع الانسان حسا ومعنى لتعيد إشعال شرارة الاهتمام فيه.. فهي تذكره بأن جسدا جائعا هو وضع غير طبيعي لمن يريد بناء الحياة، وأن جسدا تهمل احتياجاته هو جسد غير قادر أصلا على محاولة الإقلاع والوصول.. فعملية البناء والتصحيح والتقدم نحو المستقبل الإنساني ليست عملية فكرية وروحية ومعنوية وفقط، هذا الفصل لا يمكن له أن يساعد.. هذه العملية تتطلب اهتماما خاصا بالجسد كما الروح، بالمعنى كما المبنى.. الوسيلة هي الرسالة/ الرسالة هي الوسيلة تبدو صادقة هنا أكثر منها في غير هذا البعد!
صحيح أن الجسد يأخذ بعض حقوقه بما هي احتياجات، غير أن المطلوب هو النظر إلى كل حقوقه كواجبات مثلها مثل غيرها، ولها من الخيرية ما لغيرها من أعمال، وهذا الارتقاء بمفهوم الجسد على مستوى الذات سيجعل حب الحياة وتقديسها أكثر من حب الموت والوله به، وسينعكس على النظر إلى أهمية الجسد على مستوى الآخر، وسيبدأ التركيز على إسعاد الآخر لباسا وأكلا وشربا ونظرا وحديثا واستماعا.. كما أنه سيغير فلسفة العبادة التي باتت تسيطر في الأزمنة المتأخرة، فإدراك أن جسدك هو أنت بكل التفاصيل، يجعل العبادة عبادة في كل التفاصيل، لا في تفاصيل ما يسمى الروح على حساب ما يدعى الجسد!! بما يقتضيه هذا من النظر إلى العبادة على أنها وسيلة راحة لا عذاب، وتغيير كل ما لابد من تغييره للوصول إلى هذه النظرة.
حينها ستختفي طرق العبادة بالإنهاك، لتبدأ طرق العبادة بالانهماك.. وهما نقيضين لآخرهما من الإنجاز والتغيير ما ليس لأولهما بتاتا.. فمن أنهك ترك، ومن انهمك وصل. وستبدأ طرائق العبادة بالإبداع بالتغلب على بؤس العبادة بالاتباع، بما لا ينتهك فكرة شعيرة، ولا يكرس عبرها ماض غدا كل ما بين أيدينا عنه كذبا أكثر منه صدقا..