كتابات خاصة

ابتسامة تهزم الليل

أحمد الرافعي

أحفظ في ذاكرتي من سنوات الطفولة، قصة لا أدري من قذف بها إلى وعيي الغض، تحكي عن  فيروز أنها نذرت: ألا تبتسم حتى يعود بيت المقدس.
أحفظ في ذاكرتي من سنوات الطفولة، قصة لا أدري من قذف بها إلى وعيي الغض، تحكي عن  فيروز أنها نذرت: ألا تبتسم حتى يعود بيت المقدس.
كان وعينا الطفولي المتعاطي ببساطة مع كل ما يرد إليه، يتقبل هذا السلوك بنوع من الإجلال والتقدير والرغبة في التمثُّل والمُحاكاة.

لا بأس، يفكر الأطفال بعواطفهم ويتوقون إلى المُثُل.

مرت الأيام، وبقيت الذاكرة تسكنها هذه الصورة؛ صورة فيروز الجميلة التي رفضت أن تبتسم حتى يعود بيت المقدس.

لكن هذا التراث الطفولي اصطدم بأُغنيات فيروز كأجمل ما يرافق قهوتك الصباحية، وضلّ الطفل الذي في داخلي يضع يده على خدهِ متسائلاً عن فيروز التي تغرس في وجه أبناء الصباح إبتسامة الفاتحة في محراب الحياة:

هل يقف وراء هذا الفنّ الذي يمنح الصباح مذاقه الحلو.. امرأةٌ هجرت الإبتسامة؟!

كانت هذه صورة من صور التعبير المتطرف عن المشاعر النبيلة التي تسكن وعينا العربي المتضامن.

هذا التعبير الذي يسكن خطاباتنا ووسائطنا الإتصالية بالجمهور المتلقي أو البيئة الحاضنة لأي مشروع.

بيد أنّ التطرف في تسويق النُّبلِ يرتدُّ نوعاً من الرذائل.

إذ أنَّ الفضيلة وسطٌ بين رذيلتين.. والنوايا الحسنة لا تشفع للخطاب الذي يمارس التزوير في الوعي عبر بوابة العاطفة المحبّ للفضيلة والخير والإنسانية.

ويكشف هذا التطرف حالةً من الإفلاسِ وقلةِ الحيلة، بل قد يؤشِّرُ إلى حالةٍ من التيه السقيم والإنحراف الخفي الذي يلبس ثوب الأعمال الصالحة.

ما معنى أن تتحدث عن سلوكيات أو تدعو إلى تمثُلات بعيدة المنال عن دنيا الواقع، سوى أنّه ُلا يسكنك اليقين بجدوى ماتطرح، وضعف إيمانك بإمكانية الوصول.

لهذا الإتكّاء السّقيم على التطرف تجلياته في خطابنا الديني الذي ينتقي في تسويقه للقيم أكثر صور الممارسات المتطرفة في التراث، وتغدو هذه الصور المثالية والطوبائية (هي المعيار) وهي الأساس المغروس في الوعي، ويصبح الوسط المعتدل والواقعي المرضي عنه هو الإستثناء.

 

وليست هذه هي صبغة الخطاب الديني فحسب، بل إن وسائلنا الإعلامية تفعل الشيء نفسه في تقديمها عبر أدواتها الإتصالية بالجمهور إلى تقديم ذات المعرفة المتطرفة.

انظر  كيف تقدم وسائط الفن قضية إنسانية كالحبِّ مثلاً.

وحتى لا نذهب بعيداً عن قصد المقال، دعونا نُشرِّح تعاطي هذا التعبير المتطرف عن التضامن (في بعض لحظات غيبة التفكير الواعي) مع من قذفت بهم ضريبة النضال إلى فراشِ مرضٍ أوبلاط سجن أو جوف قبر أو هجرةٍ قسري

 أو مورد رزقٍ حُرَمَ منه، أو نزوح يتجرعه كل يوم. 

التضامن الإيجابي والإحساس بآلامِ رفقاء النّضال وطبقات الشعب يُنبئ عن حالةٍ سوية وضمير ٍحي.

 ومصدرخوفنا من أن نسلك مسالك التطرف في التعبير عن التضامن أو تقييمه لدى الآخرين تأثراً بثقافة الخطاب المحيط الذي يحقن وعينا دون شعورٍ أو انتباه.. 

وستجد عندها من يريد تحويل حياتك إلى مقبرة!

تصبح الابتسامة فيها أو كل سلوك شغوف بالحياة، نوعاً من الخيانة أو خطيئة للضمير، إن أحسنوا الظن.

وستجد من أبناء الجيل المقاوم من يمتعض من تصرفات أومظاهر تصدر منك.. هذه التصرفات التي تنطق بحب الحياة والتزامك بالجمال.

وعند التحقيق الواعي ستجد أنّ هذه  السلوكيات الناعمة المتجهة نحو الحياة لها فعلها الجارح في قلب الصف المعادي، الذي يفتش في سلوكك الغبي عن ما يملأ قلبه بالشماتة والشعور بالظفر.

 دعونا نفلسف المسالة بعمق:

ما الذي يصفع الظالم المستكبر: إبتسامتك التي يسكنها الكبرياء، أم دمعتك المنكسرة؟! تضامنك الإيجابي المجتهد.. أو حُزنك المتشّكِي القاعد؟

يصفق الجاني بجذل حين تجلد ظهرك أنت بالسوط، هذا الفاقد لكل معنى للشرف والفضيلة، إياك أن يسرقها منك أنت يابن الصفاء والنبل المقاوم.

حين تمنحُ أنتَ أنصار الموت، الشعور بأنها أفقدتك شغفك بالحياة، تكون قد حققت لها أعظم أهدافها.

التوقف اليائس المُحبَط يُسرِجُ خيول ميليشيا الدمار.

وإيمانك باللّا جدوى ينفخ في صدر العدو عزيمة الإستمرار.

والتّأوهات التي تصل إلى أسماعهم هي مادة حياة القلب الغادر المفسد..

هذه الميليشيا التي تبدأ شعاراتها بكلمة الموت، وأخرجت لليمنيين أنصار الموت، سنحاربها بإيماننا بالحياة، وسنوصل لهم عبر سلوكنا المتواصل اليقظ في مساحاتنا الموثقة بقيد الميليشيا أو مساحاتنا الأُخرى الطليقة: رسائل القلب القوي المؤمن، بأن مشروعنا لإعمار اليمن يبدأ بإيماننا بجمال الحياة، وإستحقاق هذا الجمال الحاضر والمنشود لصنوف التضحيات.

يهرب الجاني من عيون الصبايا الصافية، ويعبِّئُ السقيمُ روحه بزاملٍ يثير الضجيج في النفس السويَّه.

وترقص أرواحنا على أصوات الفن الجميل الذي يؤذِّنُ في مساحات الروح المترامية

فيخِرُّ القلبُ ساجداً للإله الجميل..

يأكلُ الفاسد الحرام بِنَهَم، ونصوم نحن عن صنوف الطيبات!

هم طارئ يستمتع بِبَيتِنا أكثرَ مِنّا نحن المقيمين الذين تنتظرهم الحياة بلهفةٍ بعد انتهاء الحرب!! 

يحكي لي أحدُ المختطفين كيف أنّ السجّان كان يستشيط غيظاً حين كان يسمعهم يغنُّون لأبوبكر والسمِّة والآنسي في الزنزانة

 في عصر عيد فطر وراء القضبان..

وأتذكَّر نكتة لصديقي في أيام القصف الإسرائيلي على غزة، قال معلقاً بعد  مؤتمر صحفي لخالد مشعل حينها:

قال إنه يستغرب من تصفيفة خالد مشعل ومظهره الأنيق وضحكاته المعلِّقة على بعض أسئلة الصحفيين..

وزاد في تعليقه: أنّ تلك التصفيفة والإبتسامة ستُوصِلُ رسالتها المتحدِّية الواثقه البالغة الصدَّى لكلِّ من شاهد من العالم الحر.

حسناً، ما الذي يلفِتُنا إليه القرآن الذي لا يحَوِّل تعليقاته عقب الأحداث السيئة والتي تصاب بها مسيرة الخير والحق.

لا يحوِّلها إلى عزاء أو بكائيات، بل يتجوَّل القرآن في لفت انظارنا إلى مساحاتِ الاستمرار والقفز على الجراح، واستيعاب الدروس والتقييم الصادق، ويعزِّز في من فاتهم حظٌّ أو نصر ثقتهم بأنفسهم وايمانهم بعدالة قضيتهم وانتصار المتقين في نهاية المطاف.

وهذه المعاني السابقه، وغيرها، من إشارات القرآن تنتمي إلى خطاب المستقبل والإيمان بالحياة، لا إلى ثقافةِ الكآبة والإحباط.

يمرُّ على جيل المقاومة أيام عصيبة، واقتسم أبناء هذا الجيل المقاوم ضريبة الإنحياز لهذا الخيار النبيل، وأفرزت الأيام من المقاومين من نالوا شرف الشهادة أو السجن أو التشرُّد، وتعرَّض الكثير إلى صور عديدة من الإستهداف اللئيم في النفس والمال والعرض، وضلَّ من هذا الجيل الصادق للمقاومة:

من هم  بِمنأى عن دائرة الاستهداف، وتلك هي الأيام المتداولة بين الناس.

بيد أنَّ ثقافة الجسد الواحد التي زادتها المصاعب متانة تجعلنا نعي من هذا التقسيم أنَّه، تبادل أدوار فرضتها طبيعة الصراع، فليس الغادي والرائح مفكوك القيد، سوى موثوق في سجنٍ أكبر.

وما أقربَ الانتصارات حينَ نؤمن بالحياة، وجدوى سعينا الحثيث نحوها.

 وحين نكون  أيضاً، على يقينٍ صلبٍ بزوال الليل وإنبلاجة الفجر، ومجيئ الصباحات التي نسمع فيها فيروز بصوتها الصافي وابتسامتهاالعربية.. التي تشبه اليمن.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى