كتابات خاصة

راعي في جبل جرة (3)

أحمد عثمان

في معركة الجبل القاسية التي جرت، لم يكن عم عبده غائباً، فهو لا ينام عند أي هجوم، يرقب المعركة ويقتنص أي عون يقدمه أو مساعدة. 5
في معركة الجبل القاسية التي جرت، لم يكن عم عبده غائباً، فهو لا ينام عند أي هجوم، يرقب المعركة ويقتنص أي عون يقدمه أو مساعدة.
في ليلة المعركة، ذهب لمقابلة القائد، سأله على فتحة هامة في الجبل يعرفها، مؤكدا على خطورتها رغم أنها بعيدة من المواجهة، لكن بخبرته بالجبل قال إن الوصول إليها سهل، وهي هدف قاتل ومنها سيدخلون إلى وسط الجبل.
قال القائد: عملنا شابين احتياطاً، كان يعتبرها مكانا غير مهم لكن عم عبده وبلغة الخبير أقنعه من أين يمكن أن يأتي الحوثة، وموكدا أن لديهم من أهل المنطقة من يدلهم على المنافذ. كان تنبيه مهم، أخذه القائد بعين الاعتبار وأعاد الترتيب باعتبارها ثغرة مهمة وقد كانت كذلك، وجرت فيها معارك طاحنة خسر فيها الحوثة العشرات فهي صعبة وجاؤوا إليها على اعتبار أنها ستكون مفاجئه للمقاومين. لقد شارك الراعي كعادته في المعركة.
اليوم الثاني، أرسل القائد من يأتيه بعم عبده ليشكره على رأيه السديد ويشجعه على إيصال أي ملاحظة مهما كانت، فهو خبير بالجبل ولديه حس رفيع.
لم يجد الرسول (عم عبده) في بيته، الوقت قبل الغروب، أين ذهب؟
قال سعيد مشككاً: والله إن قلبي مش مطمئن لهذا الشيبه، الشخص مش طبيعي خالص.
التفت القائد إلى الشاب (صبري ): أين صاحبك يا (صبري )؟ أخاف  يطلع مقلباً كبيراً. 
— لا أبدا، هذا طيب ومسكين، وأنا أعلم أين هو الآن قبل الغروب يجلس في التبة الغربية، يعجبه يجلس هناك يغرد ويهجل.
–  هيا روح شوفه كذه إنه هله.. بس شوفه.
اقترب (صبري) و زميله إلى الصخرة وكان عم عبده جالسا القرفصاء منهمكا بشي بين يديه مشغولا إلى درجة لم يحس بقدومهم.
ذهل صبري وزميله عندما وجدا الراعي عبده وقد خلص من رسم صورة امرأة على الصخرة وبجانبها طفل وباستغراق اتجه بنظره نحو غروب الشمس محدقا في الأصيل كفيلسوف، ثم أطلق تنهيدة عميقه أخذ يردد بعدها (مهجلاً) يردده المزارعون أثناء موسم الصيف ولحنه كله حزن و شجن.
مع العشي مع المغارب يا قليب لا تكترب
قا روحوا كل المحبين القراب والمبعدين
قا روحوا الناس بالسلامة وأنت وا محبوب لمه؟!
كان صوته شجيا كواحد من أبناء مناطق الحجرية المولعين بهذه الأهازيج وفي صوته نبرة أسى واضحة ومع الصورة التي رسمها شكلت قصة حزن يخفيها عم عبده؟
_ ترى إيش حكاية هذا الشيبة  كل يوم يخرج لنا بإشارة، قال صبري لصاحبه وهو يقترب أكثر إلى الراعي المستغرق مع الغروب كعابد!!
عم عبده كيف حالك؟
التفت بارتباك !.  
– هاها صبري أهلا اجلسوا اجلسوا شوفوا للدنيا.
– أي دنيا نشوف يا عم عبده نحن في جبل جرة مش بباريس!
شوف يا بني للشمس وهي تغيب كيف هي!
هذه هي الدنيا كلها تخبر.
كلام عميق رغم بساطته وقع في نفسيّ الشاب الذكي صبري وزميله أحمد الذي قال:
و الله كلاااام  يا عم !
— صبري: أنت شاعر يا عم عبده.. بس هيا معانا القائد يشتيك.
— يشتينا أنا؟ مو يشتي؟
— يشتي يشكرك على رأي الفتحة الغربية أمس جاء على كلامك.
يا بني احنا اللي نشكركم، أمس كان من ليالي القيامة الله لا رده.. يهم بأخذ بعض الحشيش المعصوب وهو يقول: الآن مغرب شاروح الأرانب حقي جياع، الله ينصركم مع السلامة، وداعة الله انتم  (كلكن). 
— عم عبده طلعت رسام!
-مو رسام؟
_  وبعدين ترسم  حاجات
مو تحب ياعم  عبده؟
— هذه خربشه الله يجيرك من الخربشه مودع.. ينصرف خطوتين.
و يلتفت يا صبري يا بني شتجي عندي اتفضل شعملك عشاء.
— شكرا عم عبده شكراً.
— أمانة اعتبر البيت بيتك أنا حبيتك مثل ابني. 
_ خلاص بكرة أنا  لو ما فيش حاجة شاجي لك. 
_ تمام منتظرك.
_ أين أسرتك عم عبده؟  سأل أحمد. 
نظر( عم عبده )نظرة أشبه بالعتاب  …خلاص مودعين
كان لا يتحدث عن الماضي و أي سؤال كان يبدوا كمن ينكي له جرحا .
_ صبري :  عفوا عم عبده في أمان الله.
بكرة إن شاء الله وأنا عندك.
زاد تعلق صبري بعم عبده، فهو يشعر بحنانه كما أن هناك نقاط غموض تظهر كل يوم يريد أن يعرفها إيش قصة الحزن الذي يصاحب عبده والخبرة التي يبديها أحيانا وكأنه خريج جيش أو كلية حربية. الحرص الكبير الذي يلف به المقاومة والخوف الدائ.م
والصورة؟ هذا الراعي يخفي وراءه ماضٍ تليد ومهشم يجب أن أعرفه. يقول صبري وهو ينصرف عائدا.
عندما وصل إلى القائد أخبره بأن عم عبده موجود في مكانه المعتاد وعندما أخبره عن الصورة قفز (سعيد) كمن وجد دليلا ضد الراعي.
ليقول متهكما: ورسام كمان! أقلكم شوفوا من هذا الشيبة؟ الصورة هذه احنا نحصله في الجبل في أكثر من مكان وأنا كلمت القائد بأنها ربما تكون إشارة ماء للعدو..
الآن تمام عرفنا صاحبها. صحيح ( تحت السواهي دواهي)!
القائد: الآن مش وقت الراعي كل واحد يشوف شغله، كان الوقت التاسعة ليلاً والصواريخ بدأت تنهال على الجبل والاستعداد جارٍ تحسبا لهجوم جديد.
6
في اليوم التالي، وقبل المغرب ذهب صبري إلى بيت الراعي بعد أن استأذن القائد في المبيت هناك، لكنه لم يجده في البيت، فذهب إلى المكان الذي يرتاده قبل الغروب فلم يجده!
عاد مرة أخرى سأل عنه، أخبره أحد زملائه بأن اثنين مسلحين أتوا عصرا واخذوه معهما.
صبري وبغضب: إيش يعني أخذوه؟ ومن هما؟
_  مش عارف أنا كنت بعيداً، ولم أتحقق من هم؟
صبري: ما يكونوش الحوثة أخذوه؟
— مش عارف، لكن إيش دخل الحوثة هنا شوف يكون راح با يرجع.
_  صحيح إيش دخل الحوثة إلى هنا؟؟
لا بد من إيجاد عم عبده هذا أبي هنا، أين ذهب؟ ومن هولاء؟ 
لم يدع صبري في ليلة اختفاء عم عبده مكانا إلا وسأل عنه، زادت حدة خطابه وهو الهادئ الخلوق خاصة عندما يجد من يشك فيه، ولم يهدأ إلا عندما طمأنه القائد بأنه سيبحث عنه وأن عم عبده سيكون بخير، وفي بيته الليلة، ثم أعطاه تعليمات ومأمورية لتنفيذها فقد كان (صبري ) من رجال المهمات الصعبة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى