الأخبار الرئيسيةغير مصنفكتابات خاصة

نكبات الصراعات اللاوطنية

فتحي أبو النصر

تعالوا جميعا وبشفافية قصوى إلى جردة حساب قاسية لأكثر من نصف قرن توالت خلاله مختلف أنواع نكبات الصراعات اللاوطنية، التي لم تقد إلى تحديث بنى المجتمع والدولة . تعالوا جميعا وبشفافية قصوى إلى جردة حساب قاسية لأكثر من نصف قرن توالت خلاله مختلف أنواع نكبات الصراعات اللاوطنية، التي لم تقد إلى تحديث بنى المجتمع والدولة .
ففي ستينيات الشمال؛ نهش اليمين الجمهوري اليسار الجمهوري بعد أن خرجت مصر، ثم تصالح مع الملكيين في العام 70 برعاية سعودية. 
ومن هذا التحالف تم الانقلاب على السلال، كما تم المجيء بالإرياني و إقصاؤه، مرورا بقتل الحمدي والغشمي، وتصعيد صالح الذي استمر رجل السعودية التاريخي رفقة عبد الله بن حسين الأحمر  .
أما في الجنوب؛ فقد نهش اليسار الجمهوري اليمين الجمهوري، ولم يتصالح مع السلاطين والمشايخ وأتباع بريطانيا؛لكن تيار موسكو اكتسح تيار القاهرة وسلمته بريطانيا الحكم. وهكذا هرب الطرف الخاسر إلى الشمال وإلى الخليج.
وفيما انقسمت كتلة الحاكمين هناك أيضا، فقد تم الإنقلاب على قحطان، مرورا بقتل سالمين وتصعيد علي ناصر.
الغريب أنه تم خلال تلك الفترة التوقيع على وثائق الوحدة الأولية؛ مع أن الضحايا كانت تهمتهم الرئيسة هي التقارب الشمالي الجنوبي بشكل أو بآخر.
وفي الثمانينيات شهدت المناطق الوسطى سوءة الشمال والجنوب معا؛ فكان صالح والإخوان في جبهة شمالية إسلاموية مدعومة سعوديا وأمريكيا ضد جبهة يسارية مدعومة جنوبيا وسوفيتيا .
بعدها انفجرت في 86 صراعات الطغمة والزمرة الأشد دموية في الجنوب، فقتل فتاح وشائع وعنتر لكن تيارهم انتصر، فهرب الزمرة للشمال  وأبرزهم علي ناصر وهادي.
المهم أن البيض صعد إثر ذلك في الجنوب؛ واستمرت تقاربات الوحدة قائمة، إلى أن تمت في ظل تحولات دولية عاصفة خسر فيها السوفييت وتعززت أحادية أمريكا.  بالتأكيد لعبت المناطقية والقبلية دورها في الصراع شمالا وجنوبا إضافة لأوهام واغراءات القوة غير الرشيدة.
لكن الوحدة كما يفترض قامت من أجل ديمقراطية ولاشمولية؛ وباتجاه دولة حديثة لادولة غلبة .
والحال أن ذلك لم يتم حتى اللحظة.
بعدها غادر علي ناصر إلى حضن الأسد في سوريا؛ ووقف البيض مع الخليج حين وقف صالح مع صدام. ثم تحالف الإخوان وصالح وتيار الزمرة ضد الإشتراكي وانتصروا، فهرب البيض لعمان ذات العلاقة مع إيران، كما غادر إلى بيروت الضاحية بالمحصلة .
حينها لم يكن أمام الإشتراكي إلا الوقوف ضد الحرب على الجنوب وضد إعلان البيض الإنفصالي .
وإذ بدأ صالح التوريث واشتدت التناقضات بينه وحلفائه،  تحالف الإشتراكي والإخوان ضد صالح في الانتخابات الرئاسية 2006 في الوقت الذي تحالف فيه صالح والإخوان ضد الحوثي الذي يعد الامتداد التاريخي للإمامة في الشمال .
والواقع أن الحوثي برز شمالا كقوى جديدة، فيما اكتشف لاحقا أن قوى داخلية وخارجية قامت بتخصيبه لأكثر من سبب.
كذلك يمكن القول إن”  الصراع على المدى القصير كان عبارة عن تصفية لقوى في الجيش، وعلى المدى الطويل تشكيل جيب إيراني يقلق الخليج ويساهم في توازنات الصراع الإقليمي”.
بالمقابل”  تفاقمت القضية الجنوبية أكثر وأظهرت  الحراك كقوة جديدة ذات قضية حقوقية وسياسية عادلة؛  حتى اتضح أن تيارات السلاطين في الخليج، وعلاقات البيض وعلي ناصر الإيرانية أكثر من تغذي نزعاته الانفصالية .
وسط هذا التعقيد كله؛  وتصلب النظام عن إجراء الاصلاحات الضرورية وحل القضايا العالقة ،  اندلعت الثورة الشبابية الشعبية السلمية ، فتحالف الإشتراكي والإخوان والحوثي والحراك ضد صالح . على أن النظام انشق وصار نصفه في الثورة، فاندلعت الحرب.
بعدها أنقذت السعودية صالح بمبادرة تجعله يتحكم،  فيما أكثر من نصف الحكومة وثلاثة أرباع الجيش معه.
وإذ صعد هادي للحكم كممثل بارز لتيار الزمرة فقد كان الحراك والحوثي خارج تلك المبادرة.
في الحقيقة لم يكن بيد هادي قوة ضامنة في الجيش.. كما اتسمت شخصيته بالتواطؤ مع الأقوى.
والشاهد أن الجميع نكلوا بالدستور بعد الثورة والذي كان قد نكل به صالح من قبل . كما أن الجميع أيضا دخلوا مؤتمر الحوار معتبرين أن شكل الدولة هو السبب وليس الطغيان والإفساد. بل إن قضية شكل الدولة ليست من أسباب الثورة التي تم حرفها واستغلالها.
بالمقابل”  دخلت إيران الخط على نحو لوجستي محكم، فتطرف الحراك أكثر ؛ كما تطرف الحوثي أكثر.ولكل طرف من هؤلاء حساباته الخاصة لاشك.
آنذاك كانت الفرصة سانحة لتحالف “صالح والحوثي” ضد هادي والسياسة برمتها، فتم الانقلاب وارادتهما إخضاع الجميع بالقوة للأمر الواقع ، إلى أن شعرت السعودية بالخطر الوجودي الأكبر، فهاجت واحتضنت هادي وأطراف شرعيته وقررت الحرب .
من ناحيته قام البيض سريعا بتأييد السعودية.
وبعد أشهر من الحرب أقر صالح أنه بحاجة إلى  حوار مع السعودية ، وكذلك نجح الحوثي في إقامة حوار خاص مع السعودية .
في غضون ذلك تم شحن النزعات المناطقية والتطييفية والسلالية مع أنه صراع سياسي اقتصادي اجتماعي.
كما ظهرت في الميدان مختلف قوى المقاومة التي من أبرزها قوى السلفيين .. ومثلها ظهر النفوذ الإماراتي الذي يقلق الإخوان الأشد دعما من قطر .
والأرجح أن أبرز كوارث المقاومة أنها لم تتوحد على مشروع وطني جامع، قدر مارضخت الى إرادة تحويلها لمقاومات مناطقية ومذهبية .
وبالتأكيد فإنه مع استمرار تجريف الدولة،  استمر الإرهاب الذي يتحكم فيه أكثر من طرف في الداخل والخارج هو المزدهر والمتربص أكثر من غيره .
أما تصرفات الحراك المنفلتة التي بلا أفق سياسي ناضج ، فقد بدا للجميع أنها تحرج شرعية هادي،  وتصب في مصلحة صالح والحوثي حاليا.
أما شرعية هادي فمأزقها الكبير انها لم تثبت ادائها الحكومي على الأرض.
واليوم إذ يتحاور في الكويت طرف هادي والسعودية وطرف صالح والحوثي، تبدو تذمرات الحراك وحماقاته صادمة ومخلخلة لجبهة المقاومة الداخلية ؛ والسبب لأنه -بحسب مزاعمه- بلا أي ممثل له هناك .!
وبينما يرى مناصروه أن معه الحق في تلك التصرفات مثلا؛ يرى مناوئوه أن تلك الذريعة التبريرية تنطوي على تصورات غير ناضجة حاليا.
بالمقابل يبدو الإرهاب الذي يستغله أكثر من طرف داخلي وخارجي على إستعداد تام لنهش كل ماتبقى من أحلام الدولة والمواطنة؛ وبالتالي التربع الفظيع على إرث الخراب الكبير الذي خلفته انحرافات أطراف الهيمنة والغلبة والعبث أعلاه.
ولكن ..ماذا بعد؟
ثم هل كان يجب أن يحدث كل هذا لنؤمن بأهمية تحرير الإنسان اليمني من العصبيات المناطقية، والأصوليات المذهبية ؟
وهل مايزال وطن المساواة والديمقراطية ممكنا؟
أم أن الاستبداد سيظل اللعنة التي تلاحق وتغزو المجتمع والدولة؛ ليستمر العنف والعنف المضاد هما منجزنا وامتيازنا الوحيد !؟
إن الوقت سانح لعقلنة الخيارات، ونبذ التجاذبات اللاوطنية، وإنقاذ القيم الوطنية والإنسانية المشتركة، مالم فإننا سنتوغل أكثر في اهوال الدمار والقهر واللاجدوى فقط.
وفي الواقع ؛ لا أقسى من هذه اللحظة التاريخية المثخنة من كل الجهات بالطبع.  ذلك أننا نجني حصاد تجريف الهوية الوطنية لليمنيين..حصاد أعداء الدولة والمواطنة والتنوير والكرامة..حصاد أنانية الساسة و كائنات الاستغلال السياسي للدين، فضلا عن غلبة المشاريع الصغيرة بدلاً من المشروع الوطني الكبير الذي انهار. .حصاد النخبة المأزومة التي انتقمت من بعضها بتبرير مشاريع التفكيك والتطييف والميليشيات كما بسبب هؤلاء الصغار والحمقى لم نتجاوز مايفرقنا إلى مايوحدنا..كل الأطراف بلا استثناء ستبقى مدانة أمام الضمير والتاريخ بمقدار ما اقترفت ..من صالح إلى الحوثي مرورا بالمشترك وهادي ومابينهما. أما المستقبل فهو غامض ومقلق..هناك نزق وشطط وسوء تقدير في الجنوب بشكل خاص، كما أن هناك إرهاب وافقار وإفساد وتدخلات خارجية وعصبية مذهبية في البلاد كلها، بمقابل أطلال دولة وجحيم حرب مزدوجة ، فتخيلوا المصير غير الآمن الذي ينتظرنا مالم يتم فورا إيقاف الحرب وإحلال السلام الضامن بنوايا مسؤولة وغير مراوغة  .
والثابت أن من كانوا هم المشكلة صاروا أكثر من يعادون الحلول فيما يدأبون على انحرافاتهم اللاوطنية التي لاتحتمل.!
ويبقى من المفترض -بعد كل ماحدث-اقتناع الجميع بأن الاستقواء بالعصبوية التي ترفض القانون العادل والحقوق والواجبات المتساوية، بينما تعلي من شأن غلبة الاستغلال السياسي للدين وللمنطقة وللسلالة وللشلة ، لايمكن أن تؤدي إلى دولة ومواطنة وديمقراطية، وإنما إلى عصبوية مضادة وغلبة أشد استغلالا وتبريرا وجرائما.
أما كل من كان يمارس الإقصاء للآخر، فلابد أن يأتي من يمارس الإقصاء عليه.
لكن الذين ينضجهم التاريخ هم قلة للأسف.
وعلى من كانوا يرفضون الإجماعات الوطنية منذ عقود، ان يخوضوا طريق الإندماج الوطني لاغيره.
فهو وحده الضامن لمصالح الشعب العليا، وكيانية مؤسسات الدولة التي ينبغي استعادتها وتصحيحها بشفافية، لتكون في خدمة الشعب لامراكز القوى القذرة التي عبثت بالبلاد والعباد.
وبالمحصلة؛ يجب أن يفهم الجميع بأنه لا اسوأ من تلك الإغراءات والأوهام التي يخلفها الاستخدام الناجح للقوة في مرحلة معينة؛ بينما يعتقد أصحابها انها خالدة ولاتتزحزح؛ أو لا يمكن لتقلبات الزمن ان تطال بنيانها الراسخ ، وهو في الحقيقة مجرد بنيان هش وخاو تماما.
على أنه وعي الانحطاط الهائل..ذلك القادم من حالة الاستخفاف بالالتزامات والمسؤوليات الوطنية، إضافة إلى التبجح بالمواقف المتصلبة والانتهازية لكل الأطراف ..الأطراف التي قادتنا كمجتمع وكدولة إلى إجراءات وحسابات انتقامية ومصلحية مأزومة ومروعة، وتحت شعارات اكثر من خادعة أيضا .
والمفارقة أنها شعارات مثخنة بالوطنية في الوقت الذي صار فيه حتى السلالي والمناطقي، فضلا عن الإرهابي و الافسادي الضليع، يزايدون بالوطنية بمنتهى السهولة و الوقاحة والطيش والتدليس .
أما التاريخ فسيبقى عادلا وأمينا، لأنه وحده فقط من يحول الجلادين إلى ضحايا. !
والمعنى مماسبق أننا في خضم حالة الجمهوروية الكسيحة الآن ، إضافة إلى حالات الإمامة الكسيحة، والوحدوية الكسيحة، والانفصالية الكسيحة .
أو بمعنى آخر :
لايمن جمهوري الآن،  ولايمن إمامي، ولايمن وحدوي، ولايمن انفصالي كذلك.
فإلى متى سنظل في خضم نكبات الصراعات اللاوطنية تلك.
فضلا عن أننا _منذ مابعد الثورتين الأم -مازلنا معلقين هكذا كعقاب أبدي وكلعنة أزلية ؟!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى