ما يزال الجدل حول موقف الغنوشي وحزب النهضة فيما يتعلق بالفصل بين الدعوي والسياسي مثاراً على مستوى أعلى وفتح مجالا أوسع لطرح سؤال عن مستقبل المشاريع الاسلامية السياسية بعد أن صار هذا الموقف محط قبول وقابلية نمذجته على بقية الدول العربية الديموقراطية.
ما يزال الجدل حول موقف الغنوشي وحزب النهضة فيما يتعلق بالفصل بين الدعوي والسياسي مثاراً على مستوى أعلى وفتح مجالا أوسع لطرح سؤال عن مستقبل المشاريع الاسلامية السياسية بعد أن صار هذا الموقف محط قبول وقابلية نمذجته على بقية الدول العربية الديموقراطية.
بطبيعة الحال، فإن حالة الجزر التي تشهدها حركة “الاخوان المسلمون” في الوطن العربي كمشروع إسلامي سياسي؛ بات مقبولا لدى أصحاب الحركة نفسها الاقتراب أكثر نحو الأفكار والأخلاقيات التي لا تختلف مع الفكر العلماني واليساري، لكنه لا يعني إغلاق سؤال: هل ما يزال مشروع الاسلام السياسي باقياً أم أنه قد تعرض لتجريفات ما بعد الثورات العربية والدخول إلى عتبات ما بعد “الاسلاموية”.
وعلى الرغم من بروز “الاخوان” كظاهرة تمثل أبرز مشاريع الاسلام السياسي إلاّ أن تشكل بعض التيارات السلفية في تنظيمات سياسية عقب الثورات العربية أبقى على ظاهرة “الاسلام السياسي”.
نظرياً، ما تزال الاحزاب السلفية السياسية في مصر كحزب النور وتونس،جبهة الاصلاح، واليمن حزب الرشاد تمثل في برنامجها السياسي كتلة صلبة من إحياء مشروع الدولة الاسلامية، لكن عملياً أظهرت حالة المراجعات التي كانت في خانة “الثوابت” ووضعها في سلة الاجتهاد، أظهرت فرضية النقاش حول ما اذا كان هذا التيار سيواصل الجدل حول “الثوابت” والانتهاء إلى ما وصلت إليه وقررته حركة النهضة.
يقول ياسر برهامي بعد أن أنشيء حزب النور: إن الواقع بعد الثورات هو الذي تغير أما نحن لم نتغير، وكأنه يقول مازلنا على المنهج والدعوة السلفية. لكن الدعوة السلفية لا تؤمن بالديموقراطية التي كانت تمثل “نظام كُفري” في وقت سابق.
دفعت الثورات العربية “السلفية السياسية” الى وسط الحراك الشعبي، وحين وجد السلفيون الأمر متاحاً للصعود نحو السلطة لتطبيق الشريعة قالوا إنهم سيأخذون بالديموقراطية كآلية إدارية وليس كفلسفة، ومع هذا الاندفاع المفاهيمي المتسارع نحو العمل السياسي وضع السلفية السياسية أمام حقل من الأسئلة حول نظام الحكم الديموقراطي بما يحمله من مبادئ كالتشريع والحريات والحقوق.
هذه الأسئلة دخل التعامل معها في إطار المصلحة والمفسدة والأولويات أو السكوت عما يحدث عقب التجريف الدولي والاقليمي للثورات، ولتفادي شيطنة السلفية السياسية غاب الصوت عن تحكيم الشريعة إلى الانضواء تحت قيادة الأنظمة الوطنية الوظيفية إلى أجل غير مسمى.
ربما أدركت الأحزاب السلفية أن هناك فرقاً بين النظري والعملي، فالشريعة وتطبيقها كأصل من ثوابت الحزب يختلف عن امكانية تطبيقها عملياً بفعل الهيمنة الغربية على إرادة الشعوب، إضافة إلى أن تهمة “الارهاب” هي الأكثر قربا منهم وشيطنتهم، وهو ربما لن يجعل هذه المحاولة السلفية في العمل السلفي أكثر صلابة على المبادئ ممن سبقهم في بيئة سلطوية دولية يصفها محمد قطب في “واقعنا المعاصر” “أن الاسلاميين أكثر الخاسرين في اللعبة الديموقراطية”.
وعلى الرغم أن دخول السلفيين كقطاع عريض في السياسة واصطدامه بواقع التجريف لما بعد الثورات وخفوته كمشروع إسلاموي إلا أنه اعطى جزء آخر وهي السلفية الجهادية قوة في الظهور والالتفاف حولها باعتبارها جزء من طموحات إقامة دولة اسلامية وصراع قائم على الهويات كما حصل في سوريا.
وأعطى ظهور التنظيمات الجهادية الاسلامية في سوريا وطموح إقامة دولة اسلامية؛ زخماً إسلامياً وسط انكسار للإسلام السياسي السلمي في بقية الدول، مما وجد الغرب خطورة تخلُق بيئات جهادية في سوريا فشرعت بحرب كونية استجلبت معها مفاهيم “الصراع الحضاري”، باعتبار أن الخطر لا يقتصر على جماعة كـ”داعش” ولا “جبهة النصرة” بل كمشروع شعبي جهادي يسعى لإقامة دولة إسلامية.
وعلى الرغم أن ما حدث في سوريا أعطى صورة دموية للجماعات الجهادية، إلاّ أن هذه الجماعات ما زالت تمثل أكثر المشاريع صلابة بالمقارنة ببقية جماعات الاسلام السياسي، باعتبار أنها قائمة على مبررات مظلومية شرعية أمام سطوة الغرب بزعامة أمريكا وبروز ظاهرة استنهاض الأقليات الشيعية على حساب المشاريع السنية.
ومع استمرار فكرة احياء مشروع دولة اسلامية لدى المجتمعات المسلمة وبقاء حالة التسيد الغربي على العرب والمسلمين تظل مبررات الصراع المسلح باقية في ظرف انحسار المشاريع الاسلامية السياسية أو تحللها تحت الأنظمة الوطنية، وهو ما يجعل حركات الجهاد ماثلة حتى وإن جاءت بأشخاص ووجوه لا علاقة لها بمن يمثلها الجهاد حالياً.
أما بقية المشاريع المحسوبة على الاسلاموية مثل الخمينية فهو المشروع الذي لا يمثل الاسلام بل أقلية ما زالت حبيسة الصراع الماضوي وفكرة المهدي والسرداب.
لكن أمريكا وجدت من هذا المشروع فرصة ضمن سياسة “استنهاض الأقليات” في الوطن العربي، “وخارطة شرق أوسط جديد” كل هذا لمواجهة المشاريع السنية والتي ما زالت تؤمن بإقامة دولة حضارة اسلامية.
وعلى هذا النحو، يبقى مشروع “الاسلام السياسي” كحضارة منافسة محط تراجع في الوقت الراهن لأن من يقدم نفسه مشروع اسلامي سياسي يصطدم مع المجتمع الدولي كنظام ورغبات، عدا تلك المشاريع التي تتمرد على هذا الواقع الدولي المفروض؛ غير أنها هي الاخرى ستلاقي التهشيم ومحاولة كسرها بالقوة.