يحسب الفلكيون الفارق بين التاريخ القمري (الهجري) والتاريخ الشمسي (الميلادي) بعشرة أيام وإحدى عشرة ساعة ودقيقة واحدة تزيد فيها السنة الشمسية على السنة القمرية كل عام، وهذا يعني زيادة
يحسب الفلكيون الفارق بين التاريخ القمري (الهجري) والتاريخ الشمسي (الميلادي) بعشرة أيام وإحدى عشرة ساعة ودقيقة واحدة تزيد فيها السنة الشمسية على السنة القمرية كل عام، وهذا يعني زيادة (358) يوما خلال 33 عاما، أي ما يقارب عاما كاملا، في تلك الدورة المقدرة بـ 33 عاما تكون كل شهور السنة القمرية قد قابلت كل شهور السنة الشمسية ثم تبدأ دورتها من جديد، فإذا كان المسلم قبل 33 عاما قد صام في شهر يونيو فإنه سيصوم هذا العام في نفس الشهر، ومعلوم أن أيام شهر يونيو هي أطول أيام السنة نهارا عند سكان شمال الكرة الأرضية وبالعكس عند سكان جنوبها. ثم يتفاوت طول النهار كلما اتجهنا إلى القطب الشمالي فبينما يصل طول النهار في بداية شمال الكرة الأرضية المقارب لخط الاستواء إلى 14 ساعة فإنه يصل في الدول القريبة من القطب الشمالي إلى 21 ساعة بل يكون النهار متواصلا بلا ليل، هذه الفوارق تجعلنا نقف مليا لنرى كيف يصوم من يسكن تلك المناطق دون أن يقع في المشقة والحرج.
صيام أهل الحديدة:
تعيش منطقة الحديدة وكل المناطق التهامية ارتفاعا في درجة الحرارة يشق على أهل تلك المناطق الصيام أكثر من غيرهم، مشقة لم تكن في سنينهم الماضية لأسباب ثلاثة:
أولا: انقطاع الكهرباء عن أهل المناطق التهامية، فبعد أن عاش أهلها عقودا معتمدين على الكهرباء في تكييف الجو والتخفيف من حرارته وصارت الكهرباء بعد أن تعودوا عليها جزءا ضروريا من حياتهم على عكس من عاشوا قبل وجودها، صار الجو اليوم في المدينة حارا ومرهقا ومجهدا وربما أدى لأضرار جسدية خاصة عند الأطفال.
ثانيا: درجة الحرارة تزداد عاما بعد عام على كل الكرة الأرضية، لأسباب يعرفها المختصون أشهرها قضية الاحتباس الحراري وتأثيره على المناخ، ومن سكن صنعاء قبل ثلاثين عاما يعرف كيف كان الشتاء قديما وكيف صار اليوم، ومثله الصيف، فالبرودة كانت أشد والحرارة كانت أخف، وهذا يعني أن رمضان صيف 2016 أشد حرارة من رمضان صيف 1983 قبل 33 عاما.
ثالثا: رمضان القادم سيكون في شهر يونيو وهو أطول نهار يصوم الناس فيه منذ 33 عاما.
كل هذه الأسباب تجعلنا نقف لدراسة الموضوع لإبداء الرأي المقارب لروح ومقاصد الإسلام في مسألة صيام أهل هذه المناطق.
التيسير من أهم مقاصد الدين في الشعائر وقد جاءت الآية التي تبين لنا ذلك المقصد في سياق آيات الصوم ذاتها يقول تعالى ” يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ” فالآية في معناها القريب تقول: أن الله يريد بكم أيها المؤمنون اليسر وعدم المشقة في تكليفكم بالصوم ولا يريد بكم العسر والمشقة، فلا تعسروا على أنفسكم فما جعل عليكم في الدين من حرج.
لن أطيل في مسألة توجيه القرآن إلى مثل تلك المعاني فالخطاب الديني يقولها ويكررها باستمرار ولكنه يتردد عند تنزيلها إلى الواقع، ويتشدد حتى يقع الناس في المشقة، وكأن تلك الآيات جاءت لحالات لا يعيشها الناس إلا في النادر جدا، ولا تعالج ظواهر وحالات موجودة في كل زمان ومكان، لقد زادت الشروط والقيود حتى فقدت قيمة الرخصة منزلتها في فكرنا الإسلامي، تلك القيمة التي تجعل من الشعائر جسرا للوصل إلى الله لا حملا ثقيلا شاقا على المسلم.
والسؤال المطروح هنا: ما الذي يمكن أن يحدث لأولئك الذين يصومون في تلك المناطق الحارة جدا وفي أطول أيام السنة نهارا، وبلا كهرباء ولا مكيفات؟
طرحت هذا السؤال على مجموعة من الأطباء فقالوا: “بأن الصوم سيكون مكلفا وشاقا وأن الصائم سيفقد الكثير من السوائل، وهذا يمكن أن يجعل الجسم أكثر سخونة، ويمكن أن تقلل من قدرات الدماغ على التركيز، ويمكن أن يؤدي للقرحة وآلام المفاصل، ويمكن أن يزيد من مستويات الحساسية مثل الربو، إضافة لما سيسببه من خلل في الاملاح مع هبوط للدم وما ينتج عنه من مشكلات مثل الصدمة الوعائية وفشل الكلى، وفي الحالات الشديدة يؤدي للغيبوبة، كما أن صدمات الشمس الحارة الملتهبة تؤدي الى ضربات الشمس التي تؤثر على وعي الانسان بالإضافة الى الحروق والصفح الجلدي والفطريات و غيرها من المشكلات لا يتسع المقام لذكرها”.
ليس بالضرورة أن تجتمع كل هذه المشكلات الصحية مرة واحدة على الناس جميعا، كما أنه ليس بالضرورة أن يكون التيسير إذا وقعت كل تلك المشكلات وإنما تكفي وقوع مشكلة صحية واحدة ليأخذ المسلم بالتيسير الذي أتاحه الله له.
كتبت الآيات الصوم على المقيم الصحيح القادر على الصيام بلا ضرر ولا مشقة، ثم استثنت فريقين:
فريق أول: يكون ضرره أو مشقته في الصيام مؤقتة بفعل ما كالمريض والمسافر وهؤلاء أباحت لهم الآية الإفطار مع وجوب القضاء في عدة من أيام أخر، تكون مجتمعة أو متفرقة. وهؤلاء هم من ذكرتهم الآية: (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ).
وفريق ثان: يشقّ عليه الصوم بصورة مستمرة لا مؤقتة كهرم وضعف بنية ومرض مزمن لا يرجى برؤه، وأشغال شاقة دائمة، وحمل وإرضاع، وهؤلاء لهم أن ي
فطروا ويطعموا مسكينا عوضا عن كل يوم. وهؤلاء هم من ذكرتهم الآية: (وَ عَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ) وقد فصلت في مقال سابق معنى “يطيقونه” والاختلاف الحاصل فيه وإن كان تنزيله متقاربا عند من لم يقل بنسخ الآية، كما بينت بطلان القائلين بنسخها. وخلاصة القول أنهم يصومونها بأعلى درجات طاقتهم وهذا يعني المشقة الشديدة.
المشقة المقصودة هنا لا تعني عدم القدرة على الصوم، وإنما تعني القدرة مع المشقة الشديدة، أما المشقة البسيطة فهي موجودة عند كل صائم، وبما أن المشقة تجلب التيسير بحسب القاعدة المشهورة، فأي تيسير يناسب أهل تلك المناطق؟ فإذا قلنا بأن أهل الحديدة وما شابهها من المناطق التهامية الحارة قد يقعوا في هذه المشقة فإنه عليهم أن يأخذوا بإحدى الرخصتين:
فمن كانت مشقته مؤقته ويقوى على الصيام فيما بعد في أيام الشتاء أو غيرها فإنه يصوم عدة من أيام أخر يختارها بحسب الأيسر له مجتمعة كانت أم متفرقة. ومن كانت مشتقته مستمرة طوال العام ولا يستطيع الصيام حتى في بقية أيام العام لأسباب صحية أو غيرها فهذا يكفيه أن يطعم عن كل يوم مسكينا، وإن كان فقيرا لا يجد ما يطعم به سقط عنه ذلك حتى لا نوقعه في مشقة أخرى، ويكفيه أن يطعم نفسه وأولاده.
طول النهار في شمال الكرة الأرضية:
أما القضية الأخرى وهي صيام ساكني شمال الكرة الأرضية ممن يطول عندهم النهار عن المتوسط الطبيعي، ويصل إلى 21 ساعة أو أكثر فإن صيام هؤلاء سيدخل في المشقة التي تقتضي التيسير أيضا.
وهؤلاء إما أن يقدروا ساعات نهارهم الذي يصومونها بأقرب منطقة أو دولة إسلامية مجاورة يكون فيها النهار غير طويل، أو أنهم يقيسوا عدد الساعات بنهار بمكة ويصوموا بمقدارها، باعتبار أن مكة مهبط الوحي والتكليف بالصيام، ولما كانت كذلك فقد نزلت الآيات مراعية طول النهار وقصره فيها، فكان قريبا أن يصوم أهل المناطق المتسعة نهارا بمقدار ما يصومه أهل مكة. فإن كان أهل تلك المناطق (في شمال الكرة الأرضي) بمراكزهم الإسلامية قد اختاروا القياس على مناطق أو دول مجاورة فالأولى أن يجتمع المسلمون على ذلك، وإن كانوا قد اختاروا القياس على مكة فالأولى أن يجتمعوا على ذلك، فاجتماعهم مقصد مهم في الصوم، أما إن اختاروا الصوم بنهاره الطويل الشاق فإن كل فرد أدرى باستطاعته ومقدار مشقته ويختار الصوم في أيام أخر، أو يختار إحدى الرأيين السابقين في تحديد ساعات النهار التي يصومها، فالله سبحانه يعاملنا بالعفو بعد أن يرى صدق قلوبنا واستسلامنا له.
لقد دفعني إلى كتابة هذا الموضوع ما وجدته من الخطاب الوعظي المتشدد الذي جعل بين الناس وبين الآيات حاجزا في تدبرها وتنزيلها، وكأن آيات القرآن ليست ميسرة للذكر لكل من أراد أن يدكر، فحسوا بالحرج أو القلق إن هم أخذوا بتلك الرخص.