لا يكاد يمر يوم دون أن نسمع عن مواجهات في أكثر من بلد في العالم العربي ذات طابع طائفي، أو عرقي أو ديني. بتغذية من الخارج، انفلتت الطائفية من عقالها لتحصد الأرواح وتقطع الأوصال وتقسم المدن والقرى وتهدد وحدة البلد الواحد. ونعني بالطائفية هنا انقسام مكونات المجتمع الواحد على أساس ديني بين مسلم وغير مسلم، أو على أساس مذهبي بين المسلم السني والمسلم الشيعي، أو العلوي أو الزيدي أو الدرزي، أو على أساس عرقي بين العربي وغير العربي، وقد تشمل الطائفية أكثر من عنصر من العناصر السابقة.
لقد عملت الدول الاستعمارية على تفكيك العالم العربي في نهاية الحرب العالمية الأولى، كما جسدت ذلك في اتفاقية سايكس- بيكو لعام 1916، ثم عاد هذا الغرب نفسه، وقاعدته المتقدمة إسرائيل، ليضع النظريات لإعادة تفكيك الدول العربية والإسلامية إلى مكوناتها الطائفية، على أساس الأعراق والأديان والأقليات، خاصة بعد حرب 6 أكتوبر 1973. وقد دعا إلى الدفع بهذه الظاهرة الأكاديمي برنارد لويس في كتبه العديدة عن تخلف الإسلام والمسلمين، خاصة مقاله الشهير: «جذور الغضب الإسلامي» (أتلانتك سبتمبر 1990) وكتابه «ما الذي ذهب خطأ ـ التأثير الغربي ورد الفعل في الشرق الأوسط» الذي نشره عام 2002 أي مباشرة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر. وكذلك صموئيل هنتنغتون في مقاله الشهير «تصادم الحضارات»، (صيف 1993). وقد وضع هؤلاء وغيرهم بعض الأسس لتفكيك العالم العربي والإسلامي على أسس طائفية، كما دعا لويس للتدخل عسكريا في المنطقة ونظّـر لحرب العراق تحت مقولة «نقتلهم هناك بدل أن يقتلونا هنا».
العلة موجودة أصلا دون مؤامرة
نظرية المؤامرة، رغم وجودها، لا تكفي لوحدها لتفسير نجاح الظاهرة وانتشار العلل الطائفية. فلا يمكن لأي مؤامرة أن تنجح لو لم يكن هناك تقبل لها من الأوضاع الداخلية. نعم نحن لا نستبعد دور قوى الشر التي تغذي ظواهر التفتيت في العالم العربي لخدمة الكيان الصهيوني، كما حدث في العراق أثناء الاحتلال الأمريكي، إلا أن تمرد الأقليات وتغول الطائفية وتفاقم الجذب الطائفي لم يكن ليستجيب للمؤامرة الخارجية لو لم تكن هناك أرض خصبة معدة سلفا بسبب سياسة الحكومات الديكتاتورية، التي استخدمت الأقليات بطرق ملتوية ومشبوهة، بعضها اعتمد عليها لقمع الأغلبية أو تهميشها أو محاصرتها، وبعضها همش الأقليات نفسها وقمعها وصنفها في الدرك الأسفل من نسيج المجتمع، فميز ضدها في الوظيفة والمسكن والدخل والمعاملات. كثير من الكتاب يعتبر أن التغول الطائفي انتشر بعد ثورة الخميني عام 1979 والحرب العراقية الإيرانية التي استمرت ثماني سنوات (1980-1988) والتي وسّعت التجاذب الطائفي بأشكاله الفجة، حيث انتشرت الميليشيات المسلحة التي تحمل الطابع الطائفي، وكذلك الأحزاب والتجمعات التي عملت، بعلم أو دون علم، لصالح مشروع التفتيت الإسرائيلي. أصبحت بعض الدول العربية مقسمة طائفيا حسب المناطق الجغرافية، ما أدى إلى زيادة الهجرات الداخلية، فطبيعة الإنسان في حالة انعدام الأمن أن يلجأ إلى الجماعة التي يلتقي معها في العرق أو الدين أو المذهب أو اللون أو اللغة، كنوع من الحماية الجماعية، ثم جاءت ثورات الربيع العربي، التي كانت ذات منطلقات سياسية واجتماعية تطالب بالحرية والعدالة وتكافؤ الفرص وحرية التعبير وحرية اختيار النظام السياسي، إلا أن دخول جماعات متطرفة دينيا أو عرقيا مدفوعة بأجندات داخلية وخارجية، أدى إلى انحراف كثير من ظاهرة الثورات العربية، وحوّلها إلى ما يشبه مواجهات طائفية، وهو ما أدى إلى انفضاض الجماهير العادية من حولها، وتمسكها بالموجود السيئ كي لا يستبدل بنظام إقصائي دموي أسوأ بكثير. المعالجة السطحية لانقسامات المجتمع الداخلية لا تؤدي إلإ لمزيد من تفاقم تلك الخلافات: فئة تمسك القوة وفئات تقهر وتضطهد وتجبر الآخرين على الرضوخ أو الهجرة أو التشرد.
الأقليات والدولة الوطنية
قضية الأقليات والطوائف لا تكاد تخلو منها دولة عربية، سواء كانت أقلية عرقية أو دينية أو كلتيهما. وهناك ظاهرتان واضحتان في غالبية الدول العربية. عندما تحكم الأغلبية تهمش الأقليات، وعندما تحكم الأقلية تفرض نفسها على الأغلبية بالقهر والاضطهاد والقتل أو الاحتواء. في مرحلة التحرر الوطني ومناهضة الاستعمار خاضت فئات الشعب بمكوناته كافة، النضال من أجل إنجاز الاستقلال، كما حدث في مصر والجزائر والمغرب وسوريا والعراق واليمن الجنوبي والسودان وفلسطين. أما بعد الاستقلال فقد استفردت في الحكم فئات تنتمي لشريحة العسكر في غالب الأحيان أو العشيرة، واعتمدت على تثبيت مواقعها من خلال الاحتماء الطائفي من جهة وإقصاء أو تهميش الجماعات التي قد تشكل خطرا على النظام. البلدان اللذان خرجا عن هذه القاعدة هما تونس وفلسطين، حيث لم يشهدا أي نوع من التجاذب الطائفي. فتونس هي البلد العربي الوحيد الذي يكاد يخلو من التعقيدات والشروخ الطائفية والبلد الذي ارتقى أكثر من غيره في بناء الدولة المدنية القائمة على المؤسسات والتعليم والكفاءة، وتوسيع شبكة حقوق المرأة. أما فلسطين فلأن الاستقلال لم ينجز ولأن العدو قومي يضطهد الجميع، ظل الانتماء للوطن هو القاسم المشترك بين مكونات المجتمع كافة، وجمع النضال والمواجهة والمقاومة كل الفئات ضد العدو المشترك الذي يهدف إلى اقتلاع الشعب بكل طوائفه وأديانه، وتفريغ البلاد من شعبها الأصيل. لذلك اختفت تقريبا أي تعبيرات أو تجاذبات طائفية. إن معاملة الأقليات القائمة على التمييز أو التهميش أو الاحتواء في الدول العربية المستقلة ساهمت في إيجاد مخزون عال من القهر والشعور بالدونية، وكبت الغضب والإحباط. وظل هذا المخزون يعتمل في النفوس بانتظار اللحظة المناسبة للانفجار، وما أن لاحت الفرصة حتى وجدنا تلك المجموعات العرقية أو الدينية تمتشق السيف، إما بسبب ضعف الدولة المركزية، أو بتشجيع من الخارج، أو التأثر بالحركات الإقليمية وثورات الجماهير العربية في طول الوطن العربي وعرضه. ولكي تعرف مأساة الأقليات المهمشة أو الغالبية المقموعة في الدول العربية من قبل الأقلية الحاكمة، أنظر إلى خريطة المناصب الرفيعة والمجالس المنتخبة والوزارات، لقد فشلت الدولة الوطنية في استيعاب الأقليات واعتماد قانون المواطنة المتساوية، فلغاية الآن توجد في بعض الدول العربية فئات يطلق عليها «البدون» أي أنهم لا يحملون جنسية البلد الذي لا يعرفون غيره، كما أن هناك من تسحب جنسياتهم بسبب الأصول أو الموقف السياسي. لقد منحت الجنسية السورية لنحو200.000 كردي عام 2011 في بداية الثورة السورية. فإذا كانت الجنسية حقا من حقوقهم فلماذا تأخروا في الحصول عليها كل هذه السنين؟
إن حل مشكلة الطائفية والأقليات معروف ومطبق في أرجاء العالم، راجعوا كيف اختفت الثورات العرقية في الباسك في إسبانيا وأيرلندا وسكوتلندا وكيبيك في كندا وكورسيكا في فرنسا وكاتالونيا في إسبانيا. الحل في المواطنة المتساوية وسيادة القانون وتكافؤ الفرص، إنها الدولة المدنية القائمة على المؤسسات التي لا تميز بين شخص وآخر لا في الحقوق ولا في الواجبات، فمع الظلم والقهر والتهميش يكون التمرد ومع العدالة والمساواة وسيادة القانون وتكافؤ الفرص تلتحم فئات الشعب بغض النظر عن جذورها وقنواتها وأطيافها ومعتقداتها. فهلا تعلم العرب من هذه القاعدة بدل الإسراع إلى تفسير كل شيء بأنه مؤامرة. الجسم السليم يقاوم الفيروسات. أما إذا كان الجسم عليلا متهالكا ضعيفا فما أسهل أن تغزوه الجراثيم وتطرحه أرضا وقد تودي به إلى النهاية.
*محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز بولاية نيوجرسي
*نشر أولاً في القدس العربي