الأدب والحضور الخجول لقضايا المرأة في المنفى
يمن مونيتور/ضفة ثالثة
حضرت المرأة في الرواية العربية منذ نشأة هذا الفن في بداية القرن العشرين الماضي، وتعدّدت صورها وأدوارها، ويمكن القول إنها كانت الشخصية المحورية في معظم أحداث الفنون أيضًا، من الشعر إلى الرسم، وهي غالبًا المرأة ابنة البيئة الجغرافية لأي كاتب، أو فنان على الإطلاق، ومن خلال الفنون التقليدية.
ولاحقا في مختلف أنواع “الميديا”، أيضًا، من صحافة مكتوبة أو مرئية، أو نصوص درامية، كانت مشكلات المرأة حاضرة، تنقل عذاباتها وشجونها وهواجسها، وتتعمق في دواخلها وأحاسيسها وصولا لحياتها الجنسية، وعوامل الكبت، وتأثير المحيط الاجتماعي والديني وتفاعله مع تطور القوانين الأسرية، إلى تغيرات مرور الزمن عليها شكلًا ومضمونًا وعمقًا، وكثير من (الراصدين)، سواء الرجال أو السيدات، لشخصياتهم النسائية كانوا يعتمدون على تقديمها كصورة ليست فردية، وإنما هي انعكاس لصورة واقع يتخفف على مهل أو عجل من قيوده المجتمعية.
لا يمكن إنكار أن المرأة حظيت في كثير من الدول العربية، كما في الفن، باهتمام تشريعي يخفف من أسرها، ويمد لها الجسور للعبور من خانة التبعية إلى خانة الشراكة مع الرجل، فكانت العلاقة تبادلية أو تكاملية بين الحكومات وصانعي المحتوى الفني بكل فروعه، وبخاصة أولئك الذين يعتمدون على الدراسات البحثية، في صناعة وتكوين الشخصية، وأبعاد أهدافها، في طرح قضاياها، سواء كانت الاجتماعية أو الاقتصادية أو حتى رومانسية حالمة، وجميعهم على ارتباط وثيق بالواقع السياسي للبيئة المختارة.
في السياق لا يمكن إنكار وجود حالة تبعية للفن ليكون في خدمة الأنظمة الحاكمة، وبعمل من خلال شخصياته التي تتطور سلبًا أو إيجابًا وفق رؤية سلطوية، فيتم استئصال الحقائق، أو تشويه مساراتها، حيث تتمكن الشخصيات من أخذ المتلقي إلى حيث اصطفافاته السياسية أو الدينية أو الطبقية، أو يذهب بنا كمتلقين مع تلك الشخصيات وخاصة النسائية منها إلى نفق الندم على خياراتنا.
إن الانشغال بقضايا المرأة في الفنون كان له الأثر البالغ في مجتمعاتنا العربية، وربما لفن الدراما التلفزيونية الدور الكبير اليوم في مهمة نقل الواقع، وخاصة ذلك المثقل بتبعات الحروب الحالية، من العيش تحت سماء تمطر موتًا، أو الحياة على أرض يتحاور فيها المختلفون بالرصاص والقنابل والصواريخ (سورية، السودان، ليبيا، اليمن)، إلى حالة التشرد والنزوح واللجوء، على أن الحاجة هي لفن يرى بعين الحقيقة لا بعيون المصالح السلطوية، ويرصد حقائق، لا حالات فردية ترى في المنفى جنان الله على الأرض، وأن الطريق إلى السعادة وثيقة لجوء أجنبية، فمشكلات مجتمعات اللاجئين أكبر وأعمق مما قدم حتى الآن، وهو لا يزال بعيدًا من حدود ما قدم، وخاصة على شاشات وجبات التلفزة السريعة.
“لا يمكن إنكار وجود حالة تبعية للفن ليكون في خدمة الأنظمة الحاكمة، وبعمل من خلال شخصياته التي تتطور سلبًا أو إيجابًا وفق رؤية سلطوية، فيتم استئصال الحقائق، أو تشويه مساراتها”
لقد غابت قضايا المرأة والمجتمع في المنفى “الإجباري” الحديث، بسبب الثورات والحروب الداخلية والأحوال الاقتصادية والأزمات الحقوقية، بعمقها الحقيقي، عن الرواية العربية الحديثة، والفنون بدرجات متفاوتة، وربما، سبقتها الدراما التلفزيونية في ذلك، إلا أن الكاميرا بقيت حتى الآن في الممرات العامة، ولم تدخل إلى عمق بيت الأسرة العربية الممزقة، على الرغم من كثرة تنوع مواضيعهما، وحاجة مجتمعات المنافي لرؤية واقعهم بعين الرصد والبحث وتنامي الشخصيات للوصول إلى الهدف، لربما يستطيع الفن أن يقدم ما تعجز عنه اليوم مكاتب الاستشارات أو الخدمات الاجتماعية، التي تحد عملها قوانين صماء لا تنتمي أو لا تعبأ بثقافات ومشاعر المتضررين منها.
صحيح أن بلدان المنافي تخضع الجميع، رجالًا ونساءَ وأطفالًا، لمتطلبات شروط الاندماج، ومنها التي تساوي بين الرجال والنساء في فرص التعليم “الإجبارية” للغات بلاد المهجر، والقبول بفرص العمل المتاحة و”الإلزامية” للجميع، إلا أن العديد منهم يتقبل على مضض قوانين التعليم الإلزامية للأطفال وتنوع نشاطاتها “المختلطة”، والتي تمثل الأنشطة الرياضية، ومنها السباحة (المختلطة)، أحد تحديات البيئة المجتمعية المحافظة التي خرجوا منها، وربما يأتي هذا الأمر، تحديدًا، كواحد من أسباب تخلي عديد من العائلات المسلمة عن قرارات اللجوء التي عانوا الأمرين في سبيل الحصول عليها، والبحث عن ملاذ جديد لأسرهم، وعاداتهم المجتمعية، لتدخل الأسرة في متاهة الوطن البديل من جديد.
وعلى الرغم من غياب إحصائيات حقيقية عن عدد الأسر التي تعود أدراجها بعد حصولها على الجنسيات الأوروبية إلى بيئات إسلامية، إلا أن واقعنا الاجتماعي في بلاد المنفى يؤكد ذلك، حيث تعتبر قوانين الأسرة، وحقوق الطفل، وطول يد الحكومات الغربية في تنفيذها، من العوامل الرئيسة للأسر الرافضة لهذه القوانين، التي يمكن أن تتغول عليهم بانتزاع الأطفال من كلا الوالدين عنوة ورعايتهم من قبل أسر بديلة، لا تراعي معتقداتهم الدينية أو مشاعرهم حسب رأيهم، وخاصة بما يتعلق بالبنات تحديدًا، أو لأنهم وتحديدًا “الرجال” يخشون من تخلي زوجاتهم عنهم، وفي هذا السياق لا يمكن انكار وجود حالات عديدة، والاستقواء بالقوانين الأوروبية للحصول على حضانتهم.
ربما يمكن القول إن الكاتب والمترجم كاميران حرسان دق ناقوس الخطر في روايته الصادرة هذا العام (2023) “غربان طائرة” والصادرة عن منشورات راميتا، حيث عرض من خلال روايته المؤلمة تجربة شخصية له مع قوانين الأسرة في السويد، والتي وفقها انتزع منه طفله من قبل مكتب الرعاية الاجتماعية (“السوسيال” المؤسسة المسؤولة عن ضمان تنشئة الطفل في بيئة صحية وآمنة)، بناء على طلب زوجته التي لجأت إليهم مع طفليها الآخرين، حيث تعرفت على حقوقها وسعة قدرتها على تنفيذ ما تريده لنفسها وأطفالها.
وبغض النظر عن حجم الألم والمظلومية التي تنبعث من كل ما خطه الكاتب السوري الكردي المبهر في رشاقته اللغوية، وتداخل عوالمه الماضية والحاضرة بين ذاكرته كطفل، وحياته في المنفى، إلا أنني هنا في السياق لا أستعرض الرواية، مع أهمية فعل ذلك، ولكن أوردها كمثال، لأنها القليل الذي وجدته عن “حياة المهجر أو ما بعد الوطن” وعن واحدة من أعمق وأوجع المشكلات المجتمعية التي عانت وتعاني منها الأسر، ولكنها تبقى من وجهة نظر، أو رواية، أحد طرفي النزاع في قضية كبرى وشديدة الحساسية، انهارت من خلالها في نفس الكاتب كل ما حاولت أوروبا أو السويد تحديدًا أن تسوقه عن عدالتها، وحقوق الطفل فيها. يقول الكاتب مستغربا سطوة “السوسيال” في أروقة المحكمة: “ما الذي يجعل العدالة صماء، لا تسمع إلا بأذن واحدة همس السوسيال؟”.
*كاتبة سورية.