إذا ما أردنا أن نضع العنوان العام واللافتة الكبيرة التي تندرج فيها مشكلاتنا الفكرية والسياسية وما تفرع عنهما من مشكلات في الوطن العربي، فإن بإمكاننا القول إن أزمة العالم العربي تكمن في أزمتين: أزمة عقل وأزمة ضمير. إذا ما أردنا أن نضع العنوان العام واللافتة الكبيرة التي تندرج فيها مشكلاتنا الفكرية والسياسية وما تفرع عنهما من مشكلات في الوطن العربي، فإن بإمكاننا القول إن أزمة العالم العربي تكمن في أزمتين: أزمة عقل وأزمة ضمير.
أزمة عقل توقف عن التأمل والتفلسف وقل إنتاجه وإبداعه المعرفي وصار متأخرا عن الأمم الأخرى التي ارتقت من حوله، أزمة عقل ضاقت مخيلته واتسعت ذاكرته فأصبح يفكر بعقل الأول الذي يفارقه قرونا، عقل فقد شخصيته وذاب في شخصيات القرون الماضية، عقل يقدس مقولات واجتهادات لا تنتمي إلى الزمن الذي يعيش فيه، عقل يعتبر تفكير جيل واحد كاف عن تفكير كل الأجيال، عقل يرى أن الأموات قد فكروا بدلاً عن الأحياء، عقل قدم استقالته منذ قرون إيمانا منه بأن الأول لم يترك للآخر شيء.
واضحة هي تلك المظاهر في العقل العربي الذي نعيشه اليوم، تتوزع تلك المظاهر على كل تياراته وإن اختلفت المشارب التي يقلدونها، لكن تلك المظاهر تتجلى بوضوح أكثر لدى التيارات الإسلامية بمختلف أشكالها وألوانها وإن تفاوتت النسب في تلك المظاهر، ومن أبرز تجليات تلك الأزمة عند التيارات الإسلامية هي تلك المحاولات الساذجة إن صح القول التي تقدم نظريات سياسية واقتصادية واجتماعية تحت مسمى “إسلامية” مع غياب العمق والاتساق والواقعية إلى حد كبير في تلك الاطروحات، فهي أقرب للوعظ منها للتنظير، ذلك أنها أرادت أن تنطلق من نقطة ما قاله السلف في تلك المسائل، مغفلة التجارب الحية في الأمم الأخرى ومهملة التجربة الإنسانية المتراكمة على مدى الثلاثة القرون الأخيرة التي قفزت فيها البشرية قفزات كبيرة في مجال التنظير لتلك المسائل، فهي مسائل لا تخص المسلمين وحدهم، إذ البشرية كلها تبحث عن العدل والحرية والمساواة، وتحاول تحقيقها ما استطاعت، لكن التيارات الإسلامية اكتفت ببركة التراث الآسنة التي تحوي بضعة أفكار بدائية جدا في تلك النظريات روجت لها تحت مسمى “الإسلامية” فتعصب لها أبناء الجماعات الإسلامية رغم سذاجتها.
لقد ظن أولئك المنظرون أننا نعيش في كوكب خاص بنا لا تفاعل فيه مع الآخر، وتعاملوا مع الانتاج المعرفي وكأنه يوجد من العدم، وأوهموا الشباب أن الدين أتى بتفاصيل تلك النظريات كلها، ولو أنهم تأملوا الدين لوجدوا أنه يأتي بالأصول العامة تاركا للعقل مهمة إنتاج الحكمة التي تناسبه في كل زمان ومكان.
تلك كانت إحدى مظاهر أزمة العقل العربي في الفترة الماضية، وقد أخذت حظها من البحث والتنقيب إلى حد ما، ولكنها لم تر النور في تغيير الواقع.
أما مظاهر الأزمة الأخرى وهي أزمة الضمير فبرزت بوضوح بعد ثورات الربيع العربي، أزمة عدم وجود الإرادة الصادقة في إحداث تحول ديمقراطي حقيقي وإحداث نهضة عربية شاملة، أزمة مبادئ ظهرت جليا عند كثير ممن تغنى بالعدالة والحرية والمساواة طوال العقود الماضية، أزمة فقدان ثقة بمن كانوا ينظّرون ويدعون لقيم الدولة المدنية الحديثة، أزمة ضمير ميت تنازل عن كل مبدأ نكاية بخصمه، أزمة ضمير سكت وبرر لجرائم بحقوق الإنسان، أزمة ضمير يرى أن الديمقراطية يجب أن توصله للحكم وحده دون غيره، فإن أتت بغيره خلط الأوراق جميعاً ووقف في صف الاستبداد والطغيان.
كانت هذه المظاهر متجلية في كثير من التيارات الموجودة في منطقتنا العربية، لكنها برزت بشكل أوضح عند التيارات غير الإسلامية والتي رأت في وصول الإسلاميين -ولو عبر الديمقراطية- منكرا يجب إزالته، تيارات يسارية وليبرالية وقومية وقفت أمام التحولات التي جرت في المنطقة بعد ثورات الربيع العربي، فكفرت بما نادت به من قبل، ونصبت الشباك ووضعت الفخاخ والعراقيل أمام نجاح أي تجربة قد تحسب للإسلاميين، واستعانت في ذلك بكل من له مصلحة في إبقائنا على حال التخلف والاستبداد والصراع وعدم الاستقرار، سواء كانت جهات محلية كالأنظمة الساقطة أو جهات إقليمية لها أطماع قديمة تتجدد، أو جهات دولية ترى التغيير يمشي ضد مصالحها في المنطقة. لقد تعاون أصحاب أزمة الضمير بكل أولئك لإفشال التجارب الديمقراطية المولودة من رحم ثورات الربيع العربي، ولا يخفى ما يحققه ذلك الافشال من مصالح لتلك الجهات التي ترى في الثورات العربية حرية قد تصنع إرادة جديدة لهذه الشعوب تخالف ما يريدوه.
هكذا إذن تلخصت مشكلتنا بين فريقين: فريق رأى السمكة تقفز في الماء فظنها تغرق فقتلنا بغباء، وفريق رأى السمكة في الماء فسرب من حوله الماء كي تموت، فقتلنا بمكر وحقد ودهاء.
رغم ذلك الألم كله إلا أننا لا نستطيع إنكار ما أحدثته وما ستحدثه ثورات الربيع العربي من فتح ثغرة في ذلك الجدار الصلب الواقف أمام الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان، وما سقوط تلك الأقنعة عن دول وتيارات وأحزاب وشخصيات إلا نافذة أمل لنعرف الصادق من الكاذب في محاولاتنا القادمة، فانكشاف الحقائق أولى طرق الوصول للحل الناجع لما نعانيه.
إن الذين ينظرون إلى ثورات الربيع العربي بشكل سطحي ومن زاوية عقد من الزمن يرون أنها قد أجهضت أو أنها أعادتنا إلى الوراء خطوات، لكن المتعمق في ما أحدثته تلك الثورات من تغير في بيئة المجتمع وثقافته لا ينكر أن الشعوب بعد عام 2011م صارت أكثر وعياً وحرية مما قبله، فمناخ الحرية ذاك أخرج كثيرا ممن طمرتهم و حاصرتهم ثقافة الاستبداد، وستشهد العقود القادمة برأيي حراكا ثوريا على جميع المستويات بدءاً بالثورات الفكرية التي ستستأصل جذور مشاكلنا.