كانت اليمن أحد مراكز الحضارة المشرقة، التي نشأت على أرضها مدنية من أعرق المدنيات التي عرفها تاريخ الشرق، وعرفت مفهوم الدولة منذ قرون عديدة. كثيرة هي النوازل التي حلت باليمن وأهله خلال السنوات القليلة الماضية، ومن أشدها خطرا على المجتمع، ارتفاع حدة النزعات البدائية، من مناطقية، ومذهبية، وسلالية، والتي باتت تطوق واقعنا من كل الجهات، والمنبعثة من رماد حرائق الانقلاب على الشرعية السياسية في البلاد.
ولإن كانت محفزاتها قبل الانقلاب هاجعة في المجتمع، غير أن اسقاط العاصمة صنعاء، وسيطرة جماعة الحوثي على مؤسسات الدولة، قد نفخ في شرايينه نيران الصراعات القديمة التي دفنها اليمنيون منذ ثورة سبتمبر المباركة 1962م.
ولعل المؤسف في ذلك يأتي من ردة الفعل النظرية، من بعض تيارات الشباب، لمواجهة مليشيا الحوثي، بحيث انطلقت من أرضية التعصب ذاتها التي انطلقت منها المليشيات، وفي هذا ثلم للمبادئ التي ناضل من أجلها اليمنيون جميعا، بمختلف جذورهم، وتعدد انتماءاتهم، منذ ثمانين عاما.
من الخطأ الذي يقع به شباب ثورة فبراير في مقاومة المد المناطقي، والمذهبي، والسلالي، هو التحرك داخل المربعات المغلقة التي يصول فيها أعداء الثورة، واستخدام الوسائل نفسها، حتى بدت بعض الملامح والقسمات وكأنها نسخة مشوهة من الصورة التي نرفضها، ونستجيب بلا تعقل للوقوع في الفخ الذي نسعى للفكاك من حباله، ولعل مواجهة الدعوات الضيقة والانتصار عليها يكون باستحضار اليمن كأرض، وشعب، وليس باستحضار الآباء وسلاسل الأنساب الصدئة، ومفاهيم القبلية الرثة، والطائفية المنتنة.
إن سبأ، وحضرموت، ومعين، وقتبان، وحمير، لم يكونوا آباء لقبائل، وانما كانت تعني اسماء لشعوب بكل ما تحمله الكلمة من معنى ودلالة حضارية اليوم، على حد تعبير علامة التاريخ اليمني مطهر الإرياني..
لقد كانت اليمن أحد مراكز الحضارة المشرقة، التي نشأت على أرضها مدنية من أعرق المدنيات التي عرفها تاريخ الشرق، وعرفت مفهوم الدولة منذ قرون عديدة، وفي مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل اليمن اعتراف بكيان واضح يضم السكان جميعاً، يستند على روابط المكان، ويستمد حضوره من تاريخ ثري بمفاهيم النظام والقانون..
فاليمنيون يقدسون الأرض، التي تقوم عليها أسس الحياة المشتركة، أكثر من احتفائهم بآبائهم، وأجداهم، وفي العودة إلى الألقاب التي ينتسب إليها اليمنيون، سنجدها تعبر عن المكان. وفي هذا دلالة تشهد على تجاوز السكان للعلاقات العشائرية الضيقة، وكما يؤكد الدكتور عبد العزيز الدوري بـ”أن حمل صفة الانتماء للمكان أكثر من صفة الانتماء للقبيلة مؤشر آخر لتلاشي أهمية القبيلة”، لذلك فالخوض في مباراة الأنساب، والآباء، والأجداد، والاستناد عليها في مواجهة الدعوات الضيقة، من خلال استعادة التاريخ يعد نكوص وارتكاس، في بلد عاش قبل أكثر من ثلاثة ألاف عام في كنف المواطنة، فشيد حضارة أشادت بها الكتب السماوية جمعاء.
وفي هذا يحدثنا الدكتور جواد علي في “مفصله” الباذخ، وسفره النفيس، بأن النظام الاجتماعي في اليمن، كان قد قطع شوطا كبيرا، ليس مقارنة بمن حوله، وإنما مقارنة ببقية الأمم الأخرى، في احترام الانسان، وصيانة حقوقه، وضمانة مشاركته في السلطة، والحكم، بحيث وصل إلى درجة رفيعة من الرقي، كفته عن خوض الصراعات المتوالية، وجولات العنف المتكررة، وأطلقت العنان لقدراته في تعمير الأرض وبنائها، ففي لغة اليمن القديمة، يوجد مصطلح له – كما يقول علامة العرب جواد علي – صلة بمعنى “المواطنة” والمواطنين بالمعنى الحديث. وهو مصطلح: “خمس” ويجمع على “اخمس” “أخمس”، ويراد به مواطنو مملكة أو إمارة. فهو بمعنى المواطنة أو الرعاية في الاصطلاح الحديث.
وفي هذا وغيره العديد من الشواهد الدالة على المستوى الذي بلغته دول اليمن القديم، ليس في التطور العمراني، والتقدم المادي، وانما في مفاهيم العدالة والمساواة، والمواطنة التي تسموا على ما سواها، وتزيح ما عداها من العلاقات الأولية، التي تقوم على الدم، وروابط النسب، التي لا يستقيم معها استقرار ولا عمران، والتي يحاول البعض استدعائها اليوم وتسخيرها في الصراع الدائر حول بناء الدولة اليمنية مجددا.