في الثلث الأول من القرن الحادي والعشرين اعتقد البعض أن البشرية قد وعت درس العنف والحروب، وأن الأكثر نجاعةً وشجاعةً هو حل مشكلاتها بالتفاهم والنقاش السلمي، وهذا ربما ما أضمره وسعى إلى تحقيقه واضعو شرعة الأمم المتحدة وقوانين مجلس الأمن، إلا أن الواضح أن شراهة الإنسان للدم غير قابلة لأن تُروى، فهي تطلب الدم بأشكال وطرق مختلفة.
الحروب التي لا تنتهي كثيرة حولنا، صغيرة وكبيرة، أهمها هي ثلاثٌ نشطة في عالمنا، تُرى ما دلالاتها؟
الأولى: حرب الروس في أوكرانيا، على الرغم من مضيّ أكثر من خمسة عشر شهراً على الحرب الضروس التي لم تُبقِ ولم تذر من أرواح البشر أو الشجر أو الحجر، من كلا الطرفين المتحاربين، فإن سعار الحرب ما زال قائماً ويشتد من أسبوع إلى آخر. واضحٌ أن قرار الحرب كان قصير النطر وبُني على معلومات مغلوطة أو ربما على أوهام، والمهم أن الحرب التي يسندها الغرب بكل قوة لن تكون قصيرة رغم تكلفتها البشرية الباهظة وأيضاً المالية التي وصلت الآن إلى رقم فلكي يناهز مليارات الدولارات. إلى جانب ما سبَّبته للاقتصاد العالمي من اضطراب، وما تُسببه للداخل الروسي من عدم يقين. ليس من الواضح متى وعلى أي أسس سوف تنتهي هذه الحرب، المتوقَّع أن تطول وتستنزف الاقتصاد الروسي والغربي على حد سواء، وقد تتطور إلى الجوار أو حتى ما بعد الجوار، كل المحاولات لتقديم حلول وسطى من أطرف دولية باءت بالفشل، هي حرب تزداد بشاعة والأطراف ترى أنها «كسر عظم»، هي حرب ليس فيها منتصر.
الثانية: الحرب في السودان، وهي حرب جنرالات يمكن أن توصف بأنها حرب «عبثية» بامتياز، وهي حرب لحيازة الكراسيّ والسلطة والمال لا غير، حرب ليس للسواد السوداني «ناقة فيها ولا جمل»، وما يؤلم حتى العظم هو ما يحدث لجموع الشعب السوداني من تشريد وتجويع وحرمان من الدواء، بل غياب السلطة وانتشار السرقات والقتل، وتجتمع ثمانون دولة كي تجمع «على الورق» ملياراً ونصف المليار دولار لإغاثة السودانيين، لا يعرف أحد كم منها سوف يسلَّم إلى الأمم المتحدة، فهي ما زالت «وعود»، ولا يعرف أحد كم يمكن أن يصل منها إلى الشعب السوداني وكيف؟ هذه الحرب مأساوية، فكل الحروب على الأقل لها بعض التفسير، إلا هذه الحرب التي تقع على رأس الشعب السوداني كأنها القدر، ليس لها تفسير مُقنع إلا التفسير الأكثر واقعية وهو محاولة هروب الجنرالات من تسليم السلطة للمدنيين. والأخيرون، المدنيون، أيضاً بينهم ما صنع الحداد، هي حرب عالم ثالثة في الغالب سوف تنتهي، إن انتهت، بتقسيم جديد للسودان وسيادة العسكر، ما يذكّر الناس بتقسيم باكستان في السبعينات من القرن الماضي. من جديد هي حرب ليس فيها منتصر.
الثالثة: الحرب الفلسطينية – الإسرائيلية، هي أطول الحروب وأكثرها غموضاً وأقلها نتائج محققة، فقد بدأت منذ سبعين عاماً أو يزيد، وما زالت مستمرة وسوف تبقى. في الأشهر الأخيرة أصبحت أكثر حدة وشراسة، كما يظهر من أرقام القتلى الفلسطينيين الذين تتصاعد أرقامهم يومياً، حتى أصبحت تلك الأرقام مخيفة، كما يظهر من نوعية وشراسة الآلة الحربية التي تستخدمها الحكومة الإسرائيلية بإدخال المروحيات والصواريخ. وهي حرب يمكن أن تصنَّف بأنها «حرب استنزاف» بين الفريقين. ولا يبدو أن أياً من الطرفين، وبخاصة الإسرائيلي، قابل أو مقتنع بشكل من أشكال الحلول السلمية. هي حرب من جديد ليس فيها منتصر.
كيف نفسِّر تلك الحروب؟
من الواضح أنها «حروب الخوف» من التغيير المستحَقّ؛ في الأولى النظام الروسي كان قلقاً من التطور في الجوار: أوكرانيا أقرب المناطق الجغرافية وأكثرها التصاقاً بالبر الروسي، وبالتالي ما يحدث فيها مؤثر في عموم روسيا، وأهم ما حدث فيها هي الثورة الناعمة، «الثورة البرتقالية»، (2004 – 2005)، التي أنتجت حكومة منتخبة ديمقراطياً، والأخيرة قد تكون معادية لنظام فيه القائد مدى الحياة وهو المتحكم في كل الأمور، أي القيصر الجديد، وقد بدأت تلك الموجة تؤثر ليس في الداخل الروسي ولكن أيضاً في الجوار القريب، وهي روسيا البيضاء التي شهدت موجة من الاحتجاجات عام 2020 تشابه ما حدث سابقاً في أوكرانيا، كل ذلك دفع موسكو إلى أن تتخذ قرار الحرب ربما إطفاءً لكل ذلك الحراك غير المستحب الذي ينتشر في الجوار!
الخوف من جديد هو ما يمكن أن يفسر ما يحدث في السودان، فبعد حراك شعبي واسع أطاح بحكم عمر البشير القائم على قاعدة «الإسلام الحركي»، سايرت النخبة العسكرية أولاً مطالب الناس، وتوجهت إلى ما يبدو أنه حكم مدني، سرعان ما انقلبت عليه، ثم انشقت على نفسها وقامت الحرب المقيتة بين الجنرالات… هو الخوف من تسليم السلطة لحكم مدني قد يكشف عورات الجنرالات في السلطة وشراهتهم للثروة.
أيضاً من جديد الخوف هو الذي يدفع بالناخب الإسرائيلي إلى انتخاب متشددين، ويدفع بالسياسي الإسرائيلي إلى التشدد… هو خوف تاريخي ومَرضيّ من الآخر المشارك في الأرض، فهناك يقين لدى اليمين الإسرائيلي وسكان المستوطنات، أن الأمن لن يتحقق إلا من خلال «إبادة» الشعب الفلسطيني، لأنه في نظر تلك الشرائح هو النقيض لعيشهم في هذه الأرض، ومهما اعتدلت مطالب الفلسطينيين، فإن الشك التاريخي المسبِّب للخوف يُبعد أي شريحة إسرائيلية عن التفكير بشكل عقلاني، لذلك يوصَم أي عمل فلسطيني ويوصَف مباشرةً بأنه «إرهاب» تشويهاً له. هي حرب ليس فيها منتصر.
هذه الحروب والأزمات حولنا هي محاولة لمنع الموجة الرابعة من المكسب التاريخي والإنساني، وهي موجة المشاركة الشعبية والحريات العامة وحقوق الإنسان، والأهم من ذلك التداول السلمي للسلطة، أي إنها مصدّات مسبقة لمنع التطور الذي قيل إنه سوف يشهد «نهاية التاريخ» والتي على نتائجها سوف يتقرر مصير الإنسانية لفترة قادمة وقد تكون طويلة.
آخر الكلام: كما تقول الأمم المتحدة، أنتجت تلك الحروب موجة هائلة من اللجوء الإنساني بلغت حتى الآن مائة وسبعة ملايين لاجئ، وهو رقم تاريخي ويكبر.
*نشرت أولاً في صحيفة الشرق الأوسط