آراء ومواقف

كنتُ شاهداً على مذبحة هران!

حسين الصوفي

كنت شاهداً على واحدة من أبشع المذابح في تاريخنا على الإطلاق، شاهداً على الخذلان المجتمعي والذل غير المبرر، شاهد على الغباء السياسي الذي لم يفق منه البعض إلا بعد صدمات مزلزلة كـ”هران”. ليلة الإثنين، الثامن عشر من مايو قبل عام؛ اتصل بي الزميل عبد الله قابل، كان يحتفل بإنجازين مهمين في حياته المهنية، الأول نشر مقابلة أجراها مع الشيخ سلطان العرادة محافظ محافظة مأرب لصحيفة المدينة السعودية، والثاني قرب حصوله على شهادة البكالوريوس الثانية من كلية الإعلام بجامعة العلوم والتكنولوجيا قسم إذاعة وتلفزيون، بعد نيله بكالوريوس صحافة من الجامعة ذاتها.
ليلتها ضحكنا كثيرا، وأرسل لي رسائل صوتيه بالواتس، كان يضحك بانتعاش كعادته، ضحك بانشراح وكان يرميني بكلماته الدافئة، ثم يسكب سهام العتاب على شكل كلمات طفولية بريئة للغاية، لا زالت التسجيلات تذكرني به كلما أحن إليه، وكل أوقاتي حنين لهما.
قبلها بليلتين اتصلت بالزميل يوسف العيزري، تناقشنا حول طموحاته، كان رئيسا لتحرير صحيفة المجتمع الصادرة عن “إصلاح” ذمار، كان يرتب لزواجه بعد خطوبته بأسابيع، ولم يكن يوسف يطيل الحديث، كان يختم اتصاله “مع السلامة يا حسيني”، كان خجولا وبريئا، وطموحاً وعملياً.
صباح الأربعاء خرج يوسف وعبد الله وحسين العيسي ونجيب، واتجهوا نحو مهرجان لقبيلة الحداء، نصرة للشرعية! وحين عادوا اقتادتهم عصابة الحوثي والمخلوع من نقطة الجامعة التابعة لقوات ما يسمى بـ”الحرس الجمهوري” عند مدخل مدينة ذمار، ثم أودعوهم سجن هران الذي كان الحديقة الوحيدة لأطفال نحو مليون ونصف مواطن في ذمار.
وقبل مغيب شمس الخميس الحادي والعشرين من مايو 2015 صمت عبد الله قابل إلى الأبد، وصمت معه يوسف، وعشرات من الضحايا الأبرياء بينهم الشهيد السياسي المسالم الوالد/ أمين الرجوي، صانع الابتسامات وعميد السلام؛ لقد صمتوا بعد صعود أرواحهم إلى السماء، وبقيت ضحكات عبد الله قابل في تسجيلات الواتس وهو يخاطبني كطفل يأبى الرحيل.
ها نحن اليوم نطوي عاما كاملا على ارتكاب المليشيا الإرهابية واحدة من أبشع الجرائم على الإطلاق، وهاكم الأدلة من واقع عشته لحظة بلحظة وقد يخرج في عمل قريب إن تيسرت الظروف لذلك..
أولا: أدلة تورط الحوثيين:
بعد ارتكاب الحادثة مباشرة نشر الحوثيون في مواقعهم الالكترونية ومن بينها وكالة سبأ المحتلة من قبلهم، أن من يصفونهم بـ”العدوان” ارتكبوا مجزرة وقتلوا 23 شخصا، لكن بعد أن تصاعدت القضية وأخذت تأخذ منحاها الحقيقي، كان الحوثيون يسعون لإخفاء كل شيء عن الجريمة البشعة في تاريخ اليمن المذبوح، وحاصروا كل الراصدين والمتابعين والمحققين من الصحافيين والمعنيين بالتوثيق الحقوقي، عجزوا عن حصر عدد الضحايا حتى اللحظة!
ليس هذا الدليل الوحيد على تعمد الحوثيين ارتكاب هذه المجزرة البشعة، بل إن اختيارهم هران، واستقدام أمين الرجوي من إب إليه دليل على نيتهم المبيتة على تنفيذ وصية ونصيحة حسن زيد ومن معه، بوضع المختطفين أهدافا للقصف في مخازن الأسلحة.
بل إن نوعية المختطفين تؤكد أن الحوثيين تعمدوا الزج بعشرات الأبرياء في هران من أجل تسويق الجريمة وتوظيفها لصالحهم واستغلال دماء الضحايا وأرواح الأبرياء في تنفيذ مشروعهم القذر بقتل مزيد من اليمنيين وتوسيع الحاضنة الشعبية لهم، واستدرار تعاطف المجتمع معهم، وهذا ما كشفته الأرقام المرعبة للضحايا، والذين بلغ عددهم حسب الشهود نحو 73 مختطفاً كانوا في المباني الثلاثة في حديقة هران ساعة وقوع القصف عند الخامسة من عصر الخميس 21 مايو 2015م.
ثانيا: ليست جريمة بل سلسلة جرائم..
وقعت الكارثة، عند الخامسة ونصف مساءاً، لكن الحوثيين لم يسمحوا سوى لسيارة اسعاف واحدة فقط وصلت إلى مكان الحادث واسعفت جريحين، أحدهما الزميل حسين العيسي، وهو الآن مختطف لدى المليشيا مجددا، كأنهم غاضبون عليه لماذا لم يمت، والثاني المعاق عبد الكريم الضبياني وكان في غيبوبة!
أما بقية الضحايا لم يعلم مصيرهم حتى اللحظة سوى 11 شخصا من أصل 73 شخص، استطعنا رصد عشرة نجوا فقط، وأحد عشر من رصدتهم منظمة حقوقية! ويبقى السؤال أين بقية المختطفين والذين يبلغ عددهم أزيد من خمسين شخصا؟!!!
يجب فتح تحقيق دولي وعاجل في هذه المجزرة المروعة!
بعد ارتكاب المذبحة، ذهبت الأمهات إلى الحديقة للبحث عن فلذات أكبادهن، لكن المجرمين المتوحشين منعوهن بالقوة، وأطلقوا الرصاص في الهواء وعلى الأرض أيضا، وأرهبوا الأهالي..
بل قالت أم الشهيد الصحفي عبد الله قابل إن الحوثيين قالوا لها في اليوم الثاني أنهم سمعوا صوت ابنها يئن تحت الركام، وأنهم لن يستطيعوا اخراج جثمانه حتى تصل لجنة من صنعاء لاستخراج الآثار أولا! قالت أأثاركم أغلى من حياة ابني؟! قالوا ومن ألف واحد مثله؟!!
ذهبت أسرة الشهيد الصحفي يوسف العيزري لانتشال جثة ابنهم فمنعوهم وأطلقوا عليهم الرصاص، وطلبوا منهم عشرة ألف ريال أجرة الشيول، وقبل المغيب طردوهم ومنعوهم من الاستمرار في البحث عن ابنهم.
يتلاعبون بالجثث، أجبروا الأهالي على دفن أبنائهم في أكياس بلاستيكية كما تفعل مع لحم مفروم من احدى مسالخ اللحوم، قالت لي إحدى الاسر أنهم ارغموهم على التوقيع على دفن ابنهم، وهم لا يدرون هل هو ابنهم أم لا؟!
في قرية “هكر” بمديرية عنس في محافظة ذمار، كانت إحدى الأسر تستقبل جثمان ابنها، دفنوه بعد ارغام الحوثيين لهم، وهم لا يعلمون من هو، فلا توجد أي ملامح توحي بشخصيته، دفنوه مكرهين وأقاموا مراسم العزاء، وبعد أربعة أيام يأتيهم خبر أن ابنهم مخفي في سجن الأمن السياسي بذمار، أخرجوه ثم احتفلوا بعودته، وتحول المأتم إلى فرحة، لكن بقي السؤال: والقبر لمن يكون؟!
من هو المقبور في قرية هكر؟ ومن يكون الضحية ذاك؟ وأي اسرة تفتقد صاحب القبر هناك في أقصى عنس؟!
لقد ظلت جثث الشهداء تحت الأنقاض نحو سبعة أيام، وبعضهم نحو عشرة أيام، فيما مارسوا الإرهاب على الضحايا وأسرهم بشكل ممتد حتى اليوم لا يزال.
إن “هران” لغز قبيح، وجريمة بشعة يجب أن تكشف خيوطها كلها دفعة واحدة..
لقد كنت شاهداً على واحدة من أبشع المذابح في تاريخنا على الإطلاق، شاهداً على الخذلان المجتمعي والذل غير المبرر، شاهد على الغباء السياسي الذي لم يفق منه البعض إلا بعد صدمات مزلزلة كـ”هران”، شاهد على السذاجة، شاهد على اللؤم، على التحول الوحشي لبعض الشخصيات، على الولوغ في الدماء والبشاعة في الإجرام للعصابات المستأجرة الرخيصة!
وستخرج الشهادة قريباً حتى لا تبقى الجرائم مفتوحة والمجرمون طلقاء..
———- 
*من حائط الكاتب على (فيسبوك).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى