يرتفع صوت الضمائر يعاتب دواخلنا المخضرة بالتضامن والإحساس بالآم من رحلوا في قطار التضحيات، أو غابوا وراء قضبان الزنازين.
ليس ثمة يوم لا تطوف الذكرى في شوارع القلب وينصب الفؤاد خيام الحنين.
يرتفع صوت الضمائر يعاتب دواخلنا المخضرة بالتضامن والإحساس بالآم من رحلوا في قطار التضحيات، أو غابوا وراء قضبان الزنازين.
يلازمنا هذا التذكر، ونحن نأكل أو نشرب أو نتحرك في انشغالات الحياة.
وهذا المنطق، وإن كان يؤشر على صحوة في الضمائر، غير أن الإغراق فيه إلى الحد الذي يورثنا الشلل والنكوص والتوقف، منطق تأباه فلسفة النضال ومسيرة الكفاح وواجبات الوفاء لمن سقطوا وجاءت خيولهم تناشدنا الركوب ومواصلة السير.
لشهيدنا أمين الرجوي سيرة حياة تسكنها التحديات، ولم يؤثر عنها أنها استظلت بشكوى أو تسلحت بأنين.
كان فارساً يلوح بابتسامته في وجه الليل.
ويفتح مدائن المحبة والسلام بمنطقه الخالي من التذمر والانهزام.
لأمين الرجوي عمراً مديداً قضاه في إطفاء الحرائق.
وكان صوته يملأ دروبنا بمحبة الإقدام وصناعة الحياة.
وحين أتذكر خطواته الأخيرة صوب مبنى الأمن السياسي، وقد أضمر الغادرون المكيدة، تسري الرجفة في أوصالي.
لحظة درامية حتما لن تمحوها الأيام من ذاكرة إب:
نجله أسامه يقود سيارته بعد جمعة تطهر فيها وعانقت جبهته نفحات الإيمان.
هاتفوه: أن تعال من أجل السلام. وعرفت إب بعد الرجوي كل شيء إلا السلام.
يتجلى الشموخ في بهائه الأجمل. والعار في سقوطه الأرذل.
ذلك تاريخهم يا سيدي الأمين.
وتلك صنعتهم التي يتقنون:
صناعة الفخاخ الغادرة.
لحظة الغدر بالأمين كفيلة بأن تمطرهم السماء بلعنة أبدية.
لم يكن الرجوي فرداً بل كان مشروعاً شاهقاً من حب الوطن والتفاني الصامت المتجرد في سبيل نهضته.
تعرف الأيام كم كان الرجوي حاضراً في عمق اللحظات التي كان فيها الوطن يبحث عن الحرية والانعتاق.
تنقل في أدواره الوطنية والاجتماعية عبر حزب التجمع اليمني للإصلاح
وفي فبراير، في أول أيام ساحة خليج الحرية، كان الرجوي مستندا على جدار المقبرة وفي الجوار منه شباب الثورة.
ودارت الأيام وكان الرجوي في جمع الثورة ومسيراتها يطوف الشوارع معنا.
وإن تساقطت من العقل بعض الذكريات، ستظل صورة أمين الرجوي وهو يمشي معنا في إحدى المسيرات وكان الجو ماطراً، برجله العرجاء، وروحه التي تمثل خط الاستواء.
كان مجداف الأمين في الصدارة، يبحر معنا في كل دقائق الكفاح.
كنت يا سيدي ورفاقك الشهداء: آخر الأيدي التي كشفت عورة الضمائر المختبئة وراء زيف شعارات السلام والتعايش والدولة المدنية.
وكانت يدك العزلاء الممدودة للسلم، هي آخر جهود الوطن في تحاشيه للإحتراب.
يد بيضاء.. خانتها الأيادي المتلهفة للحرب.
وكان هذا التوحش المسرف المتبجح، هو العذر الناصع الذي أضاء الطريق لهذا الجيل المقاوم ليرفع البندقية من أجل حماية حقنا في العيش الكريم.
لماذا يومض القلب بالنور حين يمر فيه ذكر أمين الرجوي؟
ولم تقف الروح أمام جلال الأيام الأخيرة من حياة الثائر المغدور؟
بلا شك، ستقرأ أجيال الجمهورية القادمة عن محبة السجان الكهل وهو يغمر الرجوي بالعطف ويمده ببطانية رقيقة يتدثر بها في ليالي ذمار القارسة.
في الدقائق الأخيرة من أيام الرجوي، كان محاطاً بالليل والجدران وأسوار النوايا المخاتلة.
وسيحدثك أحد رفاق الرجوي في زنزانته عن محاولات النيل من اعتداد الأمين بنفسه وكبريائه.
وسيحكي لنا عن طهر المسيح في عشائه الأخير، وصلابة الثائر الذي سخر من وعيد المشنقة..
وفي ليالي السجن كان قلبه خاشعاً مطمئناً تسنده السماء؛ ويرتل في عمق الليالي المودعة آيات سورة التوبة وآل عمران، ويرمي في وجه المجهول: (ولسوف يعطيك ربك فترضى).
وضع الحوثيون أمين الرجوي ويوسف العيزري وعبدالله قابل في مخازن السلاح موثقين كغمام الصيف في الشتاء، ووضعوهم في بوصلة الطيران، دروعا بشرية عزلاء!
هل تساءل ليل ذمار المهشم في تلك الليلة الجانية عن:
أخلاق العروبة وشرف الخصومات التي داستها حوافر خيول الفرس!
يا ذمار يا مدينة القردعي والبردوني.. يا كرسي الجمهورية.
يا جارتنا التي زفت إلينا نعي الفرسان الذين تضافر عليهم السجن والليل والخديعة.
قبل عام أفاقت شمس الواحد والعشرين من مايو، على أجساد الرجوي ورفاقه الشهداء
ملقون في العراء.
تشير جثثهم للمارين من كل الأجيال.. نحو الطريق إلى الوطن.
وتستحثهم أن يدركوا هذا الوطن قبل أن تحوله الميليشيا إلى جغرافيا من الأضرحة.
وتحكي حروق أجسامهم عن خاتمة الأوطان حين تمتلكها مشاريع الموت الطائفية
إيهاً يا رفاقنا الشهداء.
قروح أجسامكم المحروقة: صبحنا الذي يتقيه الجناة.
وهل غير سيرتكم ترضع أبنائنا حب اليمن؟! وتحقنهم باستعدادات التضحية وكبرياء الاستشهاد؟
سنبتسم يا رفاقنا..
سنبتسم أيها الأمين، ولن يظفر الجاني بآهاتنا العاجزة.
وسنغرس في قلب الأيام من جهودنا وعزائمنا راية الانتصار والتحرر.
وسنسل سيوفنا ذات النوايا الوطنية في أكباد الرماح الآثمة.
يا سيدي الثائر الأمين: ذات جمعة زرت قبرك؛ كانت هالة الخلود تكسو أحجاره الصامتة.
في المقبرة ذاتها يسكن الأستاذ محمد الربادي.
ليست سوى أمتار قلائل ويقودك باب المقبرة نحو المكان الذي عرف خيام الحرية في فبراير 2011.
ندلف من المقابر، ونتخطى المسافات نحو الحياة.
بين مقبرتين عن يمين وشمال، كانت صرخة الميلاد ونفخة الصور لصحوة الشعب.
وعلى الضفة الأخرى من المقبرة الشمالية يرقد محمد عطا، شهيد جمعة الحسم.
تتجاور القبور لتغرس في الذاكرة واحدية الأهداف، وواحديه الطريق صوب اليمن.