الحج باتجاه مساقط النور
عرفة مهرجان الحب الكوني الخالد
جمال أنعم
الحجُّ مواقفُ إنسانيةٌ عظيمةٌ, علاماتٌ خالدةٌ دالةٌ على منتهى الامْتثالِ ومُطْلَقِ الخضوعِ لإرادةِ الحقِّ.. استعادة أدائها في الحجِّ تخليدٌ وتمجيدٌ وتكريمٌ واحتفاءٌ بعظمةِ دورِالإنسانِ ومكابداتِهِ وتضحياته في وِجهتِهِ إلى الله.. إنها من محدداتِ الطريق, علاماتٌ هاديةٌ, ونقاطُ ارتكازٍ، هي المِهَادُ الذي تأسَّسَ عليهِ البناءْ, وهي مواريث النبوة التي ألْهَمَتْ، ومازالت، تُلهمُ البشريةَ حقيقةَ العبوديةَ للهِ, ومعنى إسلامِ الوجهِ والوِجْهَةِ لهُ وحدَه.
إن تعظيمَ تلكَ الشعائرِ يتطلبُ حضوراً رُوحيّاً مُدْرِكاً، يستبْطِنُ المعانيَ العميقةَ، متجاوزا المُلامَسةَ الحِسِّيِّةَ والتَّمَسُّحَ الظاهريَّ بِقصدِ البركة.
الحجُّ بدونِ حضورِ الروحِ ونفاذِ الرؤيةِ، والدخولِ في العوالمِ المترابطةِ للشعائرِ والمناسكِ، وبدون الاندماجِ الروحيِّ والوجدانيِّ عند تأديتها، يغدو مجردَ ركضِ أجساد، مجردَ جُهدٍ عضليٍ يقْصُرُ عن بلوغِ كثيرٍ من مقاصدِ الحجّ.
بقلبي “مِنَى”
لكأني معكُمُ الآنَ, أُبَلّلُ بالدمعِ خَدَّ الطريقِ.. أحتضنُ السماءَ وكلّيْ هُتافٌ حبيبٌ “لبيكَ اللهمَّ لبيكْ”.. كمْ تعالى النشيجُ وكم سفحت الدمعُ جَذَلاً وهُياماً.. كانتِ العَبَرَاتُ فاتِحَةَ العُبورِ, كان صوتُ صاحبكم غيرَ صوتِهِ.. كان صوتُ أشجانِهِ وصباباتِهِ, صوتُ محبتِهِ، يتلامع بين السماءِ والأرض.
وكلما بلغَ “إنَّ الحمدَ والنعمةَ لكَ والملكُ, لا شريكَ لكْ” اهتزَّتْ كلُّ جوارحِهِ هِزاتِ امتلاءٍ, وفاض القلبُ بدمعٍ حبيبْ.
“عَرَفَةُ” و “مُزْدَلِفَةُ” مهرجانُ حُبٍ أبيضٍ
خلاءٌ بسيطٌ.. فقيرٌ.. لا شيْءَ، غير جُبيِلٍ أو جُبيِلين.. تتناثرُ الأحجارُ مُعَبِّرَةً عن تساهُلٍ وتواضُعٍ, ونزوعٍ نحوَ التَّفَلُّتِ من السلوكيات الجَبَلِيَّةِ المَعْهودةِ, المُتَّسِمَةِ بالتَّصَلُّبِ والجمودِ والقساوةِ والتعالي، وغِلْظةِ الطبعْ.
إنّهُ الجبلُ الدانِيْ، والصحراءُ المتراميةُ القَصِيَّةُ: رمزان رُوحيّانِ متَّصِلانِ، يُفضي كلٌّ منهما إلى الآخرِ بحبٍّ وقُرْبْ.
الصحراءُ والجبلُ القريبُ, مَدَىً للروحِ والعقلِ.. مَدَىً محكومٌ، لا يستحيلُ متاهةً, ومرتفعٌ خفيضٌ لا يُغْرِي بالانْعِزَال, ولا يُوهِمُ بملامسةِ السماءَ, ولا يُمَكَّنُ من الطيرانِ بعيداً عن الترابِ, بيئةِ الكدَحِ والركضِ, أرضيةِ الانْعتاقِ ومنصَّةِ الانطلاق.
في هذه المشاعرِ – وهي جمْعُ مِشْعَرْ – ما يُحِيْلُ على عَالَمِ الشعور.. أداءٌ تعبديٌّ مُحَمَّلٌ برمزيَّاتٍ كثيفةٍ, في أمكنةٍ روحانيةٍ خالصةٍ, مسكونةٍ بالسرّ.
في هذه الأمكنةِ.. لا مظهرياتٍ ولا شكلياتٍ، لا قشورَ تُفسدُ الرؤيةَ, لا أُبَّهَةَ أو فخامةً تحجبُ الجوهر.. لا شيْءَ مما تراهُ في الأمكنةِ ذات القداساتِ المُخترعةِ, حيثُ الإبهارُ عنصرَ إثارةٍ مهمٍ لتحريكِ الروحِ وتهييجِ الشعورِ, وفرضِ نوعٍ من السطوةِ.. لا شيء من الخارجِ يستحوذُ على العقلِ والقلبِ.. هيِ البساطةُ طريقُنا إلى المعنى الكبير..
في “عَرَفَةَ” و “مُزْدَلِفَةَ” تلوحُ عظمةُ المكانِ البسيطِ المُكتفي بروحِهِ ومظهرِهِ.. المكانُ غيرُ المُتَكَلَّفِ, الدالُّ على الكينونةِ, حيثُ عُذْرِيَّةُ الظاهرِ والحفاظُ عليها، هدفٌ أساسيٌ للوصولِ لعُذْرِيَّة الروح.
هنا تبدو البدائيةُ والبداوةُ, دوالَّ أساسيةً لحياةِ البدءِ, للانبثاق البدئي, لاستكناهِ البدايات.
هنا المكانُ البسيطُ يعبَقُ برائحةٍ أصيلةٍ.. هنا تُوْلَدُ من جديد, من قلبِ مكانِ الولادةِ. هنا تقرأ مسارك، تستنطقُ تاريخِ البشريةِ الطويلِ في طريقها إلى اللهِ.. هنا ترحلُ في ذاتِ الطريقِ, في ذاتِ النهرِ المتدفقِ من بعيد.. هنا أنت بعضُ النهرِ، متفجراً من ذاتِ النبعِ وعائداً إليه.. هنا الحجُّ طريقُ القلبِ, لا يحتاجُ إلى بهارجَ.. ما يزالُ على حالِهِ يَعُجُّ بالرسالاتِ, بالآباءِ الأنبياءِ, بالأرواحِ الباسلة التي تولتْ بناءَ الإنسانيةِ, وعلمتْنا أن نُّواصلَ السيرَ في موكبِ العظمة.
يا اللهُ.. كمٍ اعْتَرَتْنِي مشاعر, وتخطَّفَتْنِي أفكارٌ وخواطرُ وهذه المواجيد , هُنَّ بناتُ هذا الصباحِ, الذي يُشرقُ بكم على صعيدِ “عَرَفَةَ” ويا لَهُ من فجرٍ آخرَ يُشرقُ داخلُ الروحِ. تخرجُ فيه لتجدَ أسرتَكَ الكونيةَ, في مهرجانِ حبٍ أبيضَ بلونٍ واحدٍ, وسمتٍ واحد, وَوَجِيْبٍ واحد. تجدُ روحك في كرنفالِ هيامٍ كبيرٍ, تطيرُ كالفراشةِ, في أُفقٍ من الرَّحَمَاتِ مُخْضَلٍّ بَهِيٍّ, هو يومُ “عَرَفَةَ”, استعراضُ محبةٍ في ذاتِ الفضاءِ المسكونِ بِخُطى القُرونِ المُحِبَّة.. تدرِكُ لِمَ كان الحجُّ عرفةَ، ولِمَ استحق الواقفون تلك الحفاوةِ الربانيةِ الغامرة، حيث “يباهي اللهُ ملائكتَهُ عشيةَ عرفةَ بأهلِ عرفَة، فيقولُ: انظروا إلى عبادي، أتوني شُعْثاً غُبراً ضاحين من كل فجٍ عميقٍ، أُشهِدكُم أني قد غَفَرتُ لهم”، كما جاء في الحديث الشريف.
وفي “مُزْدَلِفَةَ” يَفْتِنُكَ جَيَشَانُ الأرواحِ.. يلوحُ مشهدُ أوْبَةٍ صخَّابٍ، عَرضٌ حَشْرِيٌ يبعثُ الرَّوْعَ والرهبةَ.. تُقَارِبُ فيهِ القيامةَ وأنتَ في أقربِ مقامْ.
في الحجِّ.. تتلمَّسُ الروحُ مساقِطَ النور والعافيةِ عبرَ الأزلِ.. تستعيدُ حَجَّها إلى اللهِ مُذ كانت.. تُرجِّعُ قصةَ أبيها الكبيرِ إبراهيم، قصتَهُ مع التسليمِ.. صراعَهُ وهو يضعُ قواعدَ البناءِ، يفْتَرِعُ الطريقَ، يُسَمِّيْ الطُّرَّاقَ “ملةَ أبيكم إبراهيمَ هو سمَّاكُمُ المسلمين من قبلُ”.
في الحجِّ.. نُعِيدُ محاكاةَ القصةِ، نؤدّي ذاتَ الدورِ, نؤكدُ إسلامنا وتسليمِنا لله وحدَهُ, نستعيدُ الروحَ, نُلملِمُ المعنى،نؤكدُ انتماءَنا لذاتِ المدِّ, نبرأُ من الشركِ والكفرِ والعقوقِ, نرجُمُ الشيطانَ الذي يسكنُ نفوسَنا وحياتنا..
يا الله.. ها أنذا أرجُمُ شِقوتي، زَيغي، ضَلالي، وَهَني وهَوَاني، ذِلَّتي لِسواك، ورُكوني لِغيرك. أرجُمُ كل ما يُبعِدني ويحجُبني عنك.. أرجُمُ نكوصي وتخاذُلي عن فِعلِ الحقّ، ونُصران القيمةِ والمعنى.. مع كلِّ حَجَرٍ كانت تنداحُ داخلي، دوائرَ من ضوءٍ، ومساحاتٍ من اخضرار..
يا الله.. ها نحن نُضَحي من أجلك.. نذبَحُ شكوكَنا،ظنونَنا, تردُّدَنا، تقاعُسنا، خُذلاننا، نَحْلُق هَوَى النُّفوسِ، والأوهامِ الخادعةِ، نُحدّقُ في جَمالِنا الداخِلي، نُعلِنُ مواصلةَ افتدائِنا للحقّ، نجددُ العهدَ على السَيرِ في ذاتِ الدربِ الممتدّ..
كنتُ أتقشَّر.. الطبقاتُ السميكةُ التي تلُفُّ الروح تنصهرُ في الأجواءِ النَّورانيةِ، تتفتت، تسيح تحتَ سيلِ الدَّمعِ الحارِّ.. تسقُطُ الكثافةُ, تشِفّ،تشِفّ, ترِفُّ, تشعُرُ بجوهرك اللطيفِ, تُحس بالرهافة, ترتفعُ حساسيتك, يتغيرُ إحساسُك, شُعورُك, استجاباتُك, رؤيتُك, سَمْتُك.. يهزُّك الحجُّ, يُزلزلُ كيانك, يُوقِظُ فيك العواصِفَ, يُفجّرُ أشواقَك.. يُعيدُ ترتيبَ فوضى الروحِ والعقلِ.. يُعيدُ صقلك, كي تُواصلَ اللمعان.. يُرمّمُ صُدوعَك, يُجمّعُ أشتاتك, يُعيدُ تسكينَك حيثُ تَعيَّن القدرُ والمصير..
يا الله.. ها أنذا خالصاً لك, كل ما فيَ يولدُ من جديد, كلُّ ما فيَّ يُشِعُّ بأنوارِك, يُسبحُ بحمدك, يُثني عليك.. “كل جَارحةٍ عينٌ أراكَ بها، كلّ خَفقٍ للثناءِ فم’.