آراء ومواقف

فرصة الحل السياسي متوافرة في اليمن عبر المفاوضات

راغدة درغام

فليتوقف الكلام عن «الخطّة باء» رحمةً بضحايا سياسات الاستنزاف واستراتيجيات «الترقيع» في ميادين الحروب المشتعلة، لا سيّما السورية واليمنية. فليست هناك «خطة باء» في سورية، لأن الإدارة الأميركية لن توافق على ما يستلزمه
فليتوقف الكلام عن «الخطّة باء» رحمةً بضحايا سياسات الاستنزاف واستراتيجيات «الترقيع» في ميادين الحروب المشتعلة، لا سيّما السورية واليمنية. فليست هناك «خطة باء» في سورية، لأن الإدارة الأميركية لن توافق على ما يستلزمه إحداث نقلة نوعية في المعادلة العسكرية في سورية، بسبب عدم توافر الثقة بقدرات المعارضة المعتدلة، ولأن الأولوية لكلٍّ من واشنطن وموسكو هي التوافق الأميركي– الروسي وشراكة الأمر الواقع في سورية. فليتوقف التظاهر بأن ساحة الاختلافات بين الاثنتين شاسعة أو أن وزير الخارجية الأميركي جون كيري يتأبط «الخطة باء» وهو يتراشق الكلام مع نظيره الروسي سيرغي لافروف في ما يشابه أجواء المسرحية الهزلية بتوزيع الأدوار مسبقاً. ليست هناك «خطة باء» لسورية، لأن الدول الخليجية التي تتحدّث عن «بدائل» تؤدي إلى ترحيل الرئيس السوري بشار الأسد عن السلطة ليست في وارد تحويل الجيوش التي تحشدها لمحاربة الإرهاب إلى جيش جاهز لدخول الأراضي السورية لإسقاط الأسد، ولا هي متأهبة لضخ السلاح المتطور في ترسانة المعارضة السورية لتحقيق اختراق ملموس في موازين القوى العسكرية. حان وقت العودة إلى طاولة رسم السياسات للتدقيق في واقع ساحات الحروب اليوم بعدما أثبتت سياسة الاستنزاف فشلها الذريع وكلفتها الإنسانية المروّعة. إعادة النظر في السياسات المُعتمدة في ضوء ما أفرزته ساحة الحرب من واقع جديد، ليست بالضرورة استسلاماً وإنما هي يقظة ضرورية إلى الحاجة الماسة لجردة تقويم واقعية تؤدي إلى تعديل السياسات والاستراتيجيات، بدءاً باستبدال مبدأ الاستنزاف بمبدأ إيقاف النزيف.
واضح أن الكويت التي تستضيف المحادثات اليمنية برعاية مبعوث الأمم المتحدة إسماعيل ولد الشيخ أحمد، إنما هي قلقة من انهيار المفاوضات، ولذلك تدخّل أمير الكويت الشيخ صباح الأحمد الصباح شخصياً لإنقاذها. عُمان تلعب دوراً من وراء الستار لمنع انهيار المفاوضات الحساسة بين ممثلي الحكومة اليمنية وممثلي الحوثيين. ودول الخليج كلها تحبس أنفاسها، لأنها تعي تماماً أن انهيار المفاوضات يعني الاستمرار في حرب الاستنزاف في اليمن.

ببساطة، يمكن تلخيص المفاوضات الجارية بأنها عالقة على قرار مجلس الأمن 2216 الذي تم تبنيه عند بداية الانقلاب في اليمن، وكان «ضربة معلم»، لأنه وضع خريطة طريق إلى ما يمكن وصفه بـ «استسلام» الانقلابيين أمام «الشرعية». طالب بانسحاب الحوثيين وقوات الرئيس السابق علي عبدالله صالح من المدن وتسليم الأسلحة استسلاماً أمام الشرعية مع إطلاق سراح المعتقلين وإعادة المياه إلى مجاريها قبل الانقلاب بحماية من المعاقبة عملياً. كان ذلك إنجازاً ديبلوماسياً مهماً للسعودية سجّله سفيرها لدى الأمم المتحدة عبدالله المعلمي حين نال القرار 2216 إجماعاً دولياً وبات المرجعية للحل وللشرعية.

وفي رأي مخضرم خليجي آخر، أن حرب اليمن كانت استباقية لمنع مشاريع الحوثيين وعلي عبدالله صالح ضد الأمن القومي السعودي. وعليه، كان هدف الحرب في اليمن منع الحرب اليمنية في السعودية. كان الهدف إبقاء حرب اليمن في اليمن. وهذا تحقّق، من وجهة نظر المصلحة السعودية.

كلفة الحرب أصبحت عالية في اليمن. المجاعة آتية، وهذا يزيد الوضع الإنساني تفاقماً ويصعّد وتيرة الدعوات المتزايدة إلى وقف سياسات الاستنزاف، لا سيما أن «القاعدة» ينتشر في المناطق الجنوبية اليمنية، و«داعش» يخطط لدخول اليمن لينفذ مشاريعه في تلك الأرض المحروقة.

الدول الكبرى، بالذات الولايات المتحدة وروسيا، تعطي الفسحة حالياً للمفاوضات التي يديرها المبعوث الأممي إسماعيل ولد الشيخ أحمد، ولكنها -بحسب المؤشرات العلنية وتلك التي في الكواليس- تتهيّأ لوضع مسألة اليمن تحت رعاية الثنائية الأميركية– الروسية كتلك التي تمارسها الديبلوماسية الأميركية– الروسية في سورية.

حتى الآن، هناك رغبة لدى إدارة باراك أوباما في ألا تلبي الدعوة الروسية إلى سحب الملف اليمني من مجلس الأمن ليكون ملكاً للشراكة الروسية– الأميركية. إن ازدياد التدهور الميداني في الوضع اليمني، وتزايد ملامح الانهيار في المفاوضات السياسية يتركان روسيا متأهبة لسحب البساط وعلى ذراعها الولايات المتحدة الأميركية.

هذه الأوساط تحدثت أيضاً عن خلفية قرار استبدال الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي رئيس الحكومة خالد بحاح قبل بضعة أشهر. وبحسب هذه الأوساط المطلعة، فإن الرئيس اليمني، الذي تتمسك به الرياض بصفته يمثل «الشرعية»، تصرّف بلا تنسيق مسبق وثمة من استاء من المفاجأة.

 

هذه المسائل المهمة تؤدي إلى ضرورة النظر في مقاربة جديدة لكيفية إنهاء الحرب اليمنية، بغض النظر عمّن هو في حاجة إلى «استراتيجية خروج» لا عيب في تبنيها، ولا خيار آخر في الواقع الآن سوى اعتمادها، لإيقاف المأساة. وهذا يتطلب أولاً الاعتراف بفشل سياسات الاستنزاف المكلفة بشرياً ومادياً وسياسياً.

علي عبدالله صالح وبعض الحوثيين قد يستفيدون من سياسة الاستنزاف المعاكس، لذلك لا يمانعون أن يصبح اليمن مستنقعاً يورّط الآخرين عاجلاً أم آجلاً ويستنزف موازناتهم.

فرصة التوصل إلى حل سياسي متوافرة عبر المبعوث الأممي إسماعيل ولد الشيخ أحمد (موريتاني) الذي صدق بتبسيطه المعادلة عندما قال إن لا حل أمام الأطراف سوى التنازل من الطرفين اليمنيين. فسحة التنازل تبدأ بالعزم الجدي على وقف النار والاتفاق على حكومة انتقالية توافقية تعتبر الحوثيين جزءاً من النسيج الداخلي اليمني. هكذا يكون الحل عملياً وواقعياً.

أحد أبرز العراقيل أمام هذا الحل هو القرار 2216. الطرف الحكومي يصر على التنفيذ الكامل للقرار، والذي بات أمراً مستحيلاً. أما الطرف الحوثي، فإنه يقرأ المشهد الميداني ويرى أن لا حاجة إلى الاستسلام الذي يمليه القرار 2216، لذلك يريد الحوثيون حلاً مختلفاً عن القرار 2216 الذي يعتبرونه غير واقعي. بعضهم يريد طلاقاً تاماً مع القرار، وهذا أيضاً بات أمراً مستحيلاً. البعض الآخر جاهز للتنازلات، وهو يربطها بتنازلات من الطرف الآخر، وهذا هو الحل الوحيد الممكن في المفاوضات الجارية. الحل الذي يأخذ في الحسبان الواقع على الأرض، والذي يصبو إلى التوافقية وليس إلى إملاء الاستسلام الذي لم يعد وارداً أساساً، وليست هناك «خطة باء» يمنية كما ليست هناك «خطة باء» سورية.

«أفغنة» ساحات الحروب العربية، لا سيما السورية واليمنية، ليست سياسة حكيمة، بل إنها الاستثمار الأسوأ لكل المعنيين، مردوده مضاعف على الجميع عاجلاً أم آجلاً. الحكمة تقتضي أن يتم اتخاذ قرار وقف الاستنزاف لاستبدال نموذج «الأفغنة» بنموذج «البوسنة» القائم على وقف النزيف والتنازل من أجل حلول توافقية.

فلا يمكن رهن سورية في الجحيم لسنوات إضافية إلى حين سقوط بشار الأسد. مصيره ألا يدوم في نهاية المطاف، بسبب كل تلك «الأفغنة» التي ساهم هو وآخرون في استيرادها إلى سورية. اشتراط إسقاطه كمدخل للحلول لم يعد وارداً، وذلك تماماً بسبب الموازين العسكرية، حيث كان بجانب بشار الأسد محور عازم على الفتك كرّس قدرات عسكرية هائلة، جوية روسية وبرية إيرانية، مباشرة وعبر الميليشيات. في المقابل، تلكأت الأطراف الداعمة للمعارضة السورية، وما زالت، في تقديم الدعم العسكري بزخم يقلب الموازين العسكرية أو يؤثر ميدانياً لينعكس ذلك سياسياً، فأميركا باراك أوباما تمسكت بالوعد الذي قطعته على نفسها بألا تقوّي المعارضة بالسلاح، وألا تتورط بقوات في سورية، وألا تقوم بما من شأنه أن يهز توافقها مع روسيا، وألا تحاسب إيران على مغامراتها السورية. تركيا لعبت الورقة السورية بعنجهية وعنفوان وورّطت المعارضة بدلاً من مساعدتها. الدول الخليجية سارت خطوة إلى الأمام وخطوتين إلى الوراء، بحجة القيود الأميركية على توفير الأسلحة الأميركية الصنع إلى المعارضة السورية، لكنها استمرت في التهديد بالبديل بلا «خطة باء»، وهكذا آلت الموازين الميدانية إلى ما هي عليه. ولم يعد في الإمكان قلب المقاييس، بسبب الوهن وضعف المعارضة، فالخرائط اختلفت على الساحة الفعلية.

الحلول السياسية، عندما يتم التوصل إليها، لا تأتي بمعزل من الخرائط الواقعية التي تكون الموازين العسكرية فرضتها عبر الحروب. خرائط الواقع تفرض واجب العودة إلى طاولة رسم السياسات، فإذا كان الاستثمار في تغيير النظام في دمشق اعتمد سياسة الاستنزاف الفاشلة فيما الخصم تبنى زخم الضخ العسكري في محور فتاك، لربما حان الوقت للنظر في حلول توافقية حتى وإن كانت توصف بالحلول التجميلية. فلا داعي للسقوط في دوامة الاستسلام. واقع الأمر أن لا منتصر في سورية مهما تصوّر البعض أن بقاء الأسد في الرئاسة انتصار. والانتصار قد يكون متعذراً في اليمن أيضاً.

فلتكن هناك حلول تجميلية تأتي على حساب مبادئ قرارات الأمم المتحدة، فهذا شرٌ أقل شيطانية من إخضاع سورية واليمن إلى سنة أخرى من المآسي المروعة.

نقلا عن الحياة اللندنية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى