فكر وثقافة

ثيمة الهتك كتعريف للحرب في «رحلة مليون شلن خمسين دولارا»

يمن مونيتور/القدس العربي

استطاعت الكاتبة اليمنية ليلى السياغي أن تقدم سردية لا يمكن لها إلا أن تفوز بتعاطف قلب القارئ، مع المأساة الناجمة عن حرب الصومال. والوصول إلى هذه النتيجة يعزز، بلا شك ما يمكن اعتباره نجاح الكاتبة في عملها الروائي الأول «رحلة مليون شلن خمسين دولارا» الصادرة عن دار عناوين في القاهرة، مهما ران عليها من قصور.

الأكثر إثارة للانتباه في هذا العمل هو التوظيف الذكي (المقصود أو غير المقصود) لثيمة الهتك في سياق عمل سردي يتتبع تفاصيل جانب من جوانب المأساة الصومالية وتغريبتها في اليمن. كما أن صدورها في هذه الفترة التي يشهد فيها اليمن حربه الخاصة، وصارت له تغريبته المختلفة، يجعل من التعرض للتغريبة الصومالية في اليمن نبوءة بما يشهده البلد من حرب أسست لها تلك السنوات من الاختلال، الذي ألقى ببعض حمولته على معاناة اللاجئين الصوماليين في اليمن، وهو ما تطرقت إليه الكاتبة على لسان أحد شخوص الرواية.

تبقى ثيمة الهتك أقرب الثيمات إلى تعريف الحرب؛ باعتبار فعل الأخيرة يمثل هتكاً يتجاوز في نتائجه أي هتك آخر يستهدف الكرامة الإنسانية، سواءً على مستوى الفرد أو المجتمع والنسيج الوطني والاجتماعي. وإن كان ثمة كلمة يمكن أن نستبدل بها كلمة الحرب فهي الهتك؛ ونضيف أن الحرب أسوأ أعمال الهتك لجلال معاني الحق والعدل والجمال في الذات الإنسانية، وبالتالي فعندما تهتك الحرب أستار سيادة هذه القيم؛ فهي تهتك جوهر المخزون الاستراتيجي لإنسانية البشر، وتسلبهم أسمى ما يملكون؛ فيتحول المجتمع إلى ضحايا بصيغة مجرمين، دون أن يدروا.

مما سبق فثيمة الهتك التي اشتغلت عليها الساردة في هذه الرواية كشفت جانبا، وبمستوى مختلف، من جوانب المأساة الصومالية وتغريبتها في بلد اللجوء، الذي كان أول ما يفكر فيه الصوماليون كملجأ من الحرب في بلادهم، أو على الأقل معبرا للعالم. حشدت الساردة قدراً من الحكايات والمشاهد والمعلومات التي استندت إلى معرفة ووعي بطبيعة المجتمع الصومالي وثقافته، وأعادت صوغها وحياكتها في بناء سردي متقن لن يتسرب إلى مساره أي فتور قد يصيب القارئ خلال تتبعه الحكاية؛ لأن الجرح ظل نازفا، من أول ساعات احتماء الطفلة رحمة (بطلة الرواية) من هجوم مسلح في بلدتها في الصومال، لتبقى داخل برميل، حيث شاهدتْ منه كيف قضت عائلتها، وكيف كانت تتعامل الكلاب مع ما تبقى من الجثث… لتجد نفسها، لاحقا، في حضن عائلة من خلال سيدة عجوز كفلتها.. وقد مورس على رحمة (والاسم هنا له دلالة في سياق ما يذهب إليه النص) ما تمارسه العائلات الصومالية ببناتها، أو ما يُعرف بالتطهير والمتمثل في الختان والترقيع، وقد حرصت الكاتبة على أن تقرأ المأساة بحكاية الحرب ورواية المجتمع لثقافته، وما يمثله كل منهما من تعدٍ وتجنٍ على كرامة الإنسان.. وكم كان المشهد مؤلما عندما خضعت رحمة للمجزرة؛ وهي المجزرة التي تتسبب بوفاة عديد من الفتيات جراء النزيف، وعدم القدرة على احتوائه؛ لتمثل الرواية محاكمة لثقافة المجتمع هناك أيضا. يأتي هذا السرد على هوامش سردية الحرب داخل دائرة رحمة، التي تختزل مأساة المجتمع جراء الحرب، وهي السردية التي تجسدها بوضوح مشاهد انتظار قارب النجاة (الموت) الذي يقل الهاربين إلى «جنة عدن» بمعية مهرِبين ذابت مشاعرهم وتبلدت أحاسيسهم واعتادوا المتاجرة بالموت!

 

«هناك يلتقي الفارون من كل أنحاء البلاد، والوسطاء والتجار والمرتزقة والمهرِبون والسماسرة، الذين يديرون نزل ومراكز التهريب، وينتشرون في الخيام، حيث المال والنساء العازبات وصغار السن غير المصحوبين بذويهم، يتحلق بعضهم يدخنون الشيشة، ويتشاركون أعواد القات وأوراقه، فيما تتحلق جماعات أخرى من المهرَبين الذين أكملوا حلم المليون شلن، ويلعبون الكوتشينة على طاولات صُنعت من العصى، أو على الأرض في انتظار موعد الإبحار، الذي يحدده المهرِبون، ليخطفوا حقائبهم البلاستيكية تسبقهم الآمال، ومخلفين وراءهم بلادا يحترق فيها كل شيء، والموت يحصد أرواح البشر والحيوانات، والدمار يحيط بالمدينة، البيوت والأراضي الزراعية… إنها الحرب!».

 

بقي الخوف موازيا للألم على مسار العمل السردي، الذي ظلت فيه رحمة تتعرض لمتوالية من الهتك لكرامتها، بما فيها الاغتصاب بموازاة ما كانت تتعرض له نساء أخريات.. وصولاً إلى استغلالها للعمل لدى أحد تجار تهريب الصوماليين لليمن. كان التهريب لليمن يتطلب أن يدفع الشخص مليون شلن (خمسين دولارا) مقابل تهريبه في قارب مهترئ، ليتم رميه في عرض البحر قبالة السواحل اليمنية، وهناك يكون الموت بالمرصاد لصوماليين كثر بمن فيهم أطفال وغيرهم ممن لا يجيدون السباحة.. حتى حان دور رحمة؛ لتخوض مواجهة أكثر قسوة مع البحر، على ظهر مركب ضمن رحلات ظلت تتوالى خلال سني الحرب؛ وكم كان مشهد الموت مخيفا عندما رمى صاحب المركب بالركاب بعضهم أطفال في عرض البحر قبالة سواحل عدن؛ ليصارع الصوماليون الهاربون الموت الذي يلتهم بعضهم كالعادة. «سقطت مع الآخرين في الماء تحاول السباحة في اتجاه اليابسة بينما فرّ المهربون مخلفين الأجساد تتخبط في الماء. حاولت جاهدة أن تسبح في مياه البحر الباردة، بل شديدة البرودة، أحست كأن شيئا ما يسحبها للأعماق تخبط بذراعيها وجه الماء فتحس بالاختناق، تفتح فمها محاولة التنفس فيضمها الماء مرة أخرى».

 

فثيمة الهتك التي اشتغلت عليها الساردة في هذه الرواية كشفت جانبا، وبمستوى مختلف، من جوانب المأساة الصومالية وتغريبتها في بلد اللجوء، الذي كان أول ما يفكر فيه الصوماليون كملجأ من الحرب في بلادهم، أو على الأقل معبرا للعالم.

 

«ثقلت أطرافها فاستسلمت لذلك الشيء الماء.. بلا مقاومة غاصت في الأعماق، استسلام لذيذ. أصبحت خفيفة أو متخففة جدا، بلا ذكريات، بلا أحزان، بلا وطن، جسدا هلاميا يذوب في اللاشيء.. إنه الخلاص!».

كانت رحمة شاهدا على تجربة قاسية قضى فيه عديد من رفاق رحلتها غرقا في البحر؛ لدرجة لم تنج رحمة إلا بأعجوبة بمساعدة رفيقها آر، الذي انتشلها من بين فكي الموت في عمق البحر وحملها إلى الشاطئ.. وهناك استيقظت صباحا، والجثث التي لفظها البحر متكومة على الرمال، شباب وأطفال سلبتهم الحرب حيواتهم ثلاث مرات (مرة حربا في بلادهم، ومرة هربا على قوارب الموت، ومرة صراعا مع الغرق في عمق المياه الباردة).

«لقد مات أغلب من كان على القارب. ماتوا غرقا. الآلاف يموتون غرقا بلا حول لهم ولا قوة. عاشوا نصف حياة وماتوا موتا كاملا».

من هناك (الشاطئ) بدأت رحلة رحمة ورفاقها الناجون مع التغريبة الصومالية في اليمن؛ وهو البلد الذي احتضن أكبر جالية صومالية فرّت من حرب بلادها؛ وللأسف في مرحلة كان البلد يعيش إرهاصات حربه الراهنة؛ لأن بنية الدولة كانت تترنح ضعفا وفسادا.

 

على الرغم من أنه الإصدار السردي الأول للكاتبة، إلا أنه جاء محمولاً على قدر مدهش من الاشتغال المختلف على اللغة، على ما فيها من جهة، وعلى ضبط إيقاع عناصر العمل السردي (بنية وخطاب) من جهة أخرى، ما قد يوحي بأن هذه الرواية ليست تجربتها الأولى في الكتابة السردية، بالإضافة إلى ما يعكسه العمل؛ خاصة في المحتوى الثقافي للخطاب السردي من أن الساردة قد قامت بعمل بحثي متميز تعرّفت من خلاله إلى ثقافة المجتمع الصومالي وتاريخه مع الحرب، خاصة الحرب الأخيرة؛ فجاءت الرواية متميزة ثقافيا في علاقتها بزمان ومكان السرد؛ وهو ما لا يعني أنها على المستوى الفني دون ذلك، بل كانت فنيا متميزة أيضا؛ خاصة في ما حشدته من محطات عديدة للسرد، وإن كانت هناك كبوات فنية، لكنها ليست مهمة كثيرا كتجربة أولى. على الرغم من حجم الرواية المتوسط، إلا أنها كانت حافلة بحكايات ومحطات عديدة لم يفتر، في أي منها، الحكي، ولم يختف صوت السارد، وهو صوت تداخل فيه صوت بطلة الرواية بصوت الساردة، وهي تجربة تتطلب جهدا كبيرا بما يضمن الحفاظ على أجواء السرد؛ لأن القارئ يتنقل بين صوتي البطلة والساردة؛ ما يقلل من القيمة الفنية للرواية غالبًا؛ لكنه هنا كان إضافة لها بقدر معقول.

 

على صعيد البناء استخدمت الكاتبة محطات متعددة في سرديتها للمعاناة الصومالية، وصولا إلى هربها على أحد قوارب الموت، وتوقفا عند التغريبة الصومالية في اليمن، ابتداء من النجاة من الموت في عرض البحر وصولا إلى مخيم اللاجئين وعودتها إلى عدن، لتعيش بطلة الرواية (رحمة) أول فرحة بحصولها على عمل في أحد المنازل في حي البساتين بأجر شهري قدره خمسون دولارا لدى (الشيخ) الذي حسبته ملاكا، ومرورا بالتحرش ومحاولات الاغتصاب وصولا إلى استغلالها في البغاء في سردية مؤلمة، وصولاً إلى صنعاء لتبدأ فصول جديدة للمعاناة انتهت بطردها من أحد المنازل التي خدمت فيها، بعد أن سلبوها ما كان في حوزتها مما جمعته من أجر الخمسين دولارا التي تساوي في العملة الصومالية مليون شلن خلال فترة الحرب، وقد نجحت الساردة في استخدام عدد من الثيمات ابتداءً من عتبة العنوان وثيمته والمتمثلة في الخمسين دولارا التي شكلت مبتدى ومنتهى الحكاية، وهنا جاء البناء الروائي دائريا في علاقته بهذه الثيمة، إذ هي مبتدئ رحلة ممثلة في الهرب من الحرب، وبدء الاستغلال في عدن، واستمرار نزيف كرامتها في صنعاء. في سياق البناء الدائري في التعامل مع الربط الثيمي اعتمدت الرواية على بناء تصاعدي استمرت فيه الأحداث في التصاعد عبر محطات درامية استمر فيها النزف (الهتك) لكرامة الإنسان الذي تمثله رحمة وتصنعه الحرب في الصومال، وما قبل الحرب في اليمن.

 

صحافي وناقد يمني

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى