حينما نراجع ظاهرة الجدل في مسألة الإصلاح الديني نجد أن جزء منها يعود لاختلاف فُرقاء المسألة في تصور مفهومي: (الدين) و(الإصلاح). حينما نراجع ظاهرة الجدل في مسألة الإصلاح الديني نجد أن جزء منها يعود لاختلاف فُرقاء المسألة في تصور مفهومي: (الدين) و(الإصلاح). لذلك نحن مضطرون للإشارة إلى دلالة هذين المصطلحين في اللغة والاستعمال القرآني خاصة.
أما في اللغة فقد خَلُص كبير اللغويين “الخليل بن أحمد الفراهيدي” (ت170هـ) في (كتاب العين) أن الدين في اللغة يعني: «الجزاء، الطاعة، العادة». وهذا يعني أن السياق يجبر لفظ (الدين) على أن يكون مصطلحاً تتحكم في دلالته الإضافات والسياقات.
ومع ذلك يمكننا أن نستخلص «للجزاء والطاعة والعادة» معنى جامعاً، وهو: «الانتظام بكيفية ما لتحقيق غاية».
وأما الإصلاح فهو عكس الإفساد، فإذا أريد به إصلاح ما فَسَد، فهو يتضمن تعبيراً عن الرَّغبة في العودة إلى القَديم باعتباره الأصلح لولا ما اعتراه معن فساد. بخلاف ما إذا أُريد به التَّجديد في النَّظر إلى طبيعة التشريعات ذاتها وكيفيَّة التعامل معها بما يجعلها تُحقق المقصد الأسمى الذي جاءت لتحقيقه في إطار دين الله.
الدين في القرآن الكريم
في استعمال القرآن لمصطلح الدين نجد أنه يتحدث عن: دين الله، ودين الكفار، ودين الإسلام، ودين الأنبياء، دين المسلمين، ودين الآباء، ودين بني إسرائيل، ودين الملك، دين المنافقين. ولم يرد لفظ الدين في القرآن إلا مضافاً أو مُعَرَّفاً، والإضافة والتَّعريف تجعله مُخَصَّصاً وتحدد موضوعه وطبيعة الكلام عنه.
وما يعنينا من كل ذلك هو «الدين المضاف إلى الله أو إلى الرّسل»، لما له من إلزامية ارتبطت بذاكرة البشر، باعتباره آت من وراء الغيب ومعبِّر عن القيمومة الإلهية المحيطة بكل شيء، فضلا عما يلبي من رغبة الإنسان في الحماية والخلود.
وهنا يكون الاعتراف بأن للدين المضاف إلى الله وإلى الرسل ميزة ومكانة خاصة، على أن لكل منهما خصوصية تترتب عليها أمور كثيرة، منها الثبات أو قابلية الإصلاح والتجديد.
أما الدين المضاف إلى الله، فيلاحظ أن القرآن أبرزه من خلال الخوض في القضايا العامة التي فَطَر الله الإنسان عليها: مثل جَلب النّفع ودفع الضر وحُسن العدل وقبح الجور، وشكر المنعم وتنزيه الحكيم عن العبث، ونحو ذلك من أمور الفطرة التي تتمحور حول إنسانية الإنسان من حيث هو إنسان وقيمة الحياة وما تنتهي به. وه قضايا ثابتة في جَميع الملل السَّماوية، مثل توحيد الخالق والإيمان بالغيب وضرورة الجزاء والحساب كنتيجة لأعمال الخير والشَّر.
وهذا يعني أن «دين الله» معاني وقيم عامة ثابتة، ومقصودة بذاتها، فلا تتغير أو تتبدل باختلاف الزمان والمكان، وإنما تختلف وتتغير وسائل تطبيقها والتَّعبير عنها.
أما الدين المضاف إلى الأنبياء والرسل، فهو عبارة عن منظومة من التَّشريعات، التي تُراعي الخصوصية النَّاتجة عن اختلاف الزمان والمكان ومستوى التجربة البشرية ومدى النّمو العقلي لدى المجتمعات. فأحكام دين كل رسول وتشريعات ملته مرتبطة بعلل وأسباب وموانع مَعروفة، تأتي وفق القِيَم العامّة لدين الله وتمضى في مساراتها.
وبهذه المقاربة لن نحتاج للدخول في مواجهة مع التيارات الدينية بسبب ما يبديه بعض الحداثيين من دعوة للتَّخلص من الدين جملة، فالدين – أيا كان – جزء من التكوين الفطري للإنسان ولا يستطيع – من حيث هو إنسان – أن يعيش في فراغ منه.
وهنا يمكننا القول بأن التجديد والإصلاح وراد فيما يتعلق بأي دين من أديان الرسل أو الشعوب أو الملل؛ بل واجب؛ ليتمكن من مواكبة المسارات التي رسمها دين الله لمسيرة البشرية.
وأوضح دليل على ذلك النبوات نفسها فقد جعل الله اللاحق منها إصلاحاً وتجديداً للسابق وليس الغاء له، وقال في سياق الرد على استنكار بني إسرائيل لوجود شريعة جديدة: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 106]. وقال: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [المائدة: 48].
وما يحول دون التَّجديد والإصلاح الديني
1.الخلط بين الفكرة الموصوفة بدين الله والتشريعات والتطبيقات التي أتت لتحقيق المعاني السامية وفرض القيم الإنسانية، بحيث صارت التطبيقات والتشريعات التي تم إنتاجها للتعبير عن الدين هي الدين ذاته، وبالتالي أخذت قُدسيته وباتت وكأنها مقصودة في ذاتها، بحيث لا يمكن تحقيق الدين في سواها.
2.تقديس المنتج التاريخي والتهيب من مخالفته؛ تارة بحجة أنه فهم السّلف وله ماله من المكانة، وتارة بدعوى أنه مما أجمع عليه السابقون ولا يَصلح آخر الناس إلا بما صلح به أولهم.
3.عدم وجود مؤسسات مؤهلة تتولى عملية التجديد والإصلاح بشكل مستمر ومنتظم، على أن تكون متمكنة ومفوضة ومتنوعة بحيث يشارك فيها المتنورون من مختلف المدارس الدينية وغيرهم من ذي الاختصاص.
وأقدر أن معاناتنا اليوم في العالم العربي من الخط بين دور الدين ودور السياسة، جاء نتيجة اللبس بين ما هو من الدين المضاف إلى الله والدين المضاف إلى غيره، ثم عدم التفريق بين ما هو ثابت قطعي وما هو متغير ظني، ثم تحويل الموروث النظري الذي انتجه السابقون لمواكبة الزمن الماضي إلى دين يفرض نفسه على الحاضر ويحول دون السماح بمواكبة متغيرات العصر.