قاد انفجار التنافس بين القوى العظمى إلى موجةٍ عاتيةٍ من الصراع الجيوسياسي الذي لم يشمل معظم بقاع الأرض فقط، بل وامتدّ ليشمل الفضاء الخارجي بكواكبه القريبة والبعيدة. وقد تصاعد الصراع في العامين الماضيين، خصوصا بعد الغزو الروسي لأراضي أوكرانيا، على خلفية سعي الولايات المتحدة إلى هزيمة العدوان الروسي واحتواء التمدّد الصيني، حيث غدا للقتال الدائر على الأرض الأوكرانية من وجهة النظر الأميركية وظيفة مزدوجة: إحباط الغزو الروسي وتخويف الصين مما يمكن أن تواجهه إذا فكّرت في غزو تايوان.
عادت الإدارة الديمقراطية الحالية برئاسة الرئيس الأميركي، جوزيف بايدن، إلى خطة الرئيس الأميركي الأسبق، باراك أوباما، القائمة على عزل الصين ومحاصرتها مع تثقيل الخطّة بعنصر عسكري وأمني إضافي بتشكيل تكتّلاتٍ إقليمية، تكتّل الحوار الأمني الرباعي (كواد) الذي يضم مع الولايات المتحدة كلّاً من الهند وأستراليا واليابان، وتحالف “أوكوس”، وتفعيل اتفاقية التعاون والتنسيق الاستخباراتي (يوكيوسا)، القديمة والمستمرّة منذ عام 1946، مع كل من المملكة المتحدة وأستراليا وكندا ونيوزيلندا. وركّزت، بشكل خاص، على عرقلة وصول الصين إلى التقنّيات الدقيقة في مجال الذكاء الاصطناعي وأشباه الموصلات من قياسات النانومتر بشكل خاص، ما استدعى تعميق العلاقات مع تايوان ودعمها سياسيا وعسكريا والتأكيد على الدفاع عنها في وجه أي هجومٍ صيني، باعتبارها مصنع العالم لأشباه الموصلات الدقيقة، واتفقت مع دول مجموعة السبع على القيام بدور إيجابي في حل مشكلات البنى التحتية في الدول النامية، عبر اتفاقية “الشراكة من أجل البنية التحتية العالمية والاستثمار” وتوفير مبلغ 600 مليار دولار بحلول عام 2027 لذلك، بحيث تصبح المجموعة قادرةً على الحدّ من دور الصين في هذا المجال بتوفير بدائل مناسبة للدول النامية. كما أقامت في شهر يوليو/ تموز 2022 شراكة مع الإمارات والهند وإسرائيل تحت اسم تحالف “آي2 يو2” هدفها التعاون لضمان أمن الطاقة والغذاء والاتصالات البحرية والنقل والفضاء لمواجهة التأثير الجغرافي الاقتصادي العالمي للصين.
لم تنجح خطّة الإدارة الديمقراطية في احتواء تمدّد الصين وتقييد نشاطها التجاري والاستثماري بسبب وجود تذمّر إقليمي ودولي من سياسات الولايات المتحدة، حتى أقرب حلفائها في مجلس التعاون الخليجي ضاقوا ذرعا بتجاهلها مصالحهم الوطنية، على خلفية عدم إشراكهم في المفاوضات حول البرنامج النووي الإيراني؛ رغم أنه يهدّدهم أكثر من غيرهم؛ وعدم ردّ الولايات المتحدة على الاعتداءات الإيرانية على الأراضي السعودية والإماراتية، وسعيها إلى إلزامهم بسياسات ومواقف تتعارض مع مصالحهم، ما دفعهم إلى تبنّي خيارات إقليمية ودولية تحقق التوازن من أجل تجنيب دولهم التحوّل إلى ساحة للتنافس الدولي وتبعاته، بانفتاحهم على روسيا والصين اقتصاديا وعسكريا، وتقدّمهم بطلبات للانضمام إلى منظمة شنغهاي للتعاون، وإلى مجموعة البريكس للدول الأسرع نموّا. وهذا أتاح للصين وضع قدميها في دول كانت حليفة للولايات المتحدة عقودا مثل السعودية والإمارات وليس تأمين أسواق كبيرة فقط بل ومصادر دائمة للطاقة. وقد زاد موقف الولايات المتحدة دقّة عدم تطابق مواقف حلفائها الغربيين مع موقفها من الصين، حيث اعتبرها الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، “شريكا استراتيجيا وعالميا”، وعقدت معها ألمانيا اتفاقات اقتصادية ضخمة؛ وقد جاءت نتائج استطلاع للرأي، شارك فيه أكثر من ستة آلاف شخص من 11 دولة في الاتحاد الأوروبي، أجري في أبريل/ نيسان الماضي، متطابقة مع موقفي فرنسا وألمانيا. ليس ذلك وحسب، بل ورفضت نسبة عالية من المستطلعة آراؤهم المشاركة في حربٍ محتملةٍ دفاعا عن تايوان. وهذا، بالإضافة إلى توتر علاقتها مع تركيا ورئيسها، رجب طيب أردوغان، الفائز بفترة رئاسية جديدة مدّتها خمس سنوات، على خلفية دعمها العسكري وحدات حماية الشعب، الجناح العسكري لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي الذي تعتبره تركيا جناحا سوريا لحزب العمال الكردستاني التركي، المصنّف منظمة إرهابية، وضع الولايات المتحدة في موقف صعب، وحدّ من قدرتها على تحقيق هدفيها: هزيمة روسيا واحتواء الصين، خصوصا أن حلفاءها السابقين في الخليج العربي لم يكتفوا بالانفتاح على خصومها في روسيا والصين، بل وعملوا على استثمار الموقف وابتزازها في ملفّات أمنية واقتصادية، حيث أهدت السعودية إلى الصين رعاية توقيع اتفاق تطبيع العلاقات مع إيران وضمانة تنفيذه، بعد أن كانت أجرت لقاءات أمنية وسياسية مع إيران في العراق والأردن، واتفقت معها على أغلب البنود؛ وتحوّلها، السعودية، إلى المورد الأول للطاقة للصين، مليوني برميل في اليوم، وخفضها، بالاتفاق مع روسيا، إنتاج النفط من أجل رفع الأسعار على الضد من الرغبة الأميركية، وانسحاب الإمارات من التحالف الأمني في الخليج العربي والبحر الأحمر، المشكل من 34 دولة تقوده الولايات المتحدة؛ واتفاقها مع السعودية وإيران على تشكيل قوة بحرية لحفظ الأمن في الخليج.
أدركت الولايات المتحدة خطأها في الخليج العربي بتجاهلها مصالح دوله في الاتفاق على البرنامج النووي الإيراني، وانسحابها من العراق وتسليمه لإيران، وغضّها النظر عن التدخل الإيراني في الشؤون الداخلية لدوله، ودعمها الكبير الحوثيين في اليمن وتزويدهم بأسلحة، صواريخ بالستية وطائرات من دون طيار، قادرة على ضرب أهداف في عمق هذه الدول، فانخرطت في حملة علاقاتٍ عامة وحوارات دبلوماسية لاسترضاء السعودية، باعتبارها مايسترو دول الخليج، زيارات متتالية لكبار المسؤولين الأميركيين، مثل بريت ماكغورك وعاموس هوكشتاين وجيك سوليفان وأنتوني بلينكن، ومحاولات لترتيب معادلات أمنية واستراتيجية بربط دول الخليج باتفاقيات تطبيع مع إسرائيل، تمنح الأخيرة موقعا مؤثرا عبر لعب دور مقرّر في العلاقات وتحقيق مكاسب اقتصادية وأمنية، وربط وسائط الدفاع بينها للتصدّي للصواريخ والمسيّرات الإيرانية من دون تحقيق نجاح واضح، فلجأت إلى إشراك السعودية في معالجة الملفات الإقليمية الساخنة، كإقرار بوزنها ودورها والتلميح بتخفيف القيود على بيعها أسلحة متطوّرة على سبيل الترضية والاستدراج. السعودية، المدركة مأزق الإدارة الأميركية، رفعت سعرها بطلب موافقة أميركية على برنامج نووي مدني مع امتلاك دورة تخصيب كاملة، وضمانات أمنية شبيهة بالاتفاق الذي ينظم العلاقات بين دول حلف الناتو ورفع القيود على توريد الأسلحة.
يكمن مأزق الولايات المتحدة في الخلفية الفكرية التي تدير العلاقات وتواجه التحدّيات بدلالتها، والتي تعكس عنجهية صارخة آيتها تعاملها مع أقرب حلفائها، بما في ذلك أعضاء حلف شمال الأطلسي (الناتو)، كأتباع تنتظر منهم الخضوع لتوجيهاتها والحرص، في كل علاقاتهم وممارساتهم، على مصالحها، من دون أن تلزم نفسها بالقيام بأخذ مصالحهم في الاعتبار في علاقاتها ومساوماتها الإقليمية والدولية. وقد تجلّى ذلك بوضوح في انسحابها من العراق وأفغانستان، تحت تأثير الخسائر المادية والبشرية، وحصول تغير في المزاج الشعبي الأميركي ضد التدخّل في الخارج، وميله نحو العزلة والتركيز على حلّ مشكلات الداخل، من دون تنسيق مع حلفائها ومن دون أخذ مصالحهم وأمن بلادهم بالاعتبار؛ ما قاد إلى تراجع نفوذها في الشرق الأوسط، وسمح للصين وروسيا بالسعي إلى ملء الفراغ.
دفعت هذه الخلفية الإدارات المتعاقبة إلى تجاهل التطوّر الذي حصل في العلاقات الدولية وانعكاسه على الأوزان والأدوار، حيث بات وزن الدولة ودورها يرتبط، بشكل رئيس، بما تملك من إمكانات مالية واقتصادية وموادّ أولية تحتاجها الدول الأخرى؛ والفارق بين ما تملكه وما تحتاجه العامل الحاسم في تحديد مدى استقلاليتها وتحرّرها، ما جعلها لا تقيم وزنا لدول كثيرة وتستخف بها، حتى باتت هذه الدول مصدر استنزاف لقدراتها الردعية ونفوذها السياسي، وقد تأكّد تراجع النفوذ الأميركي في مناسبتين: الاتفاق السعودي الإيراني برعاية صينية وإعادة النظام السوري إلى جامعة الدول العربية، علما أن هذا التطوّر هو ما فتح الطريق واسعا أمام دول، مثل الصين بما تملكه من إمكانات لشقّ طريقها واحتلال موقع مؤثّر في النظام الدولي؛ وسمح لها ولغيرها بالتهام جزء هام من حصّة الولايات المتحدة في الاقتصاد الدولي، ومنحها النفوذ والتأثير وشجّعها على الدعوة إلى تعديل النظام الدولي الذي تصفه الولايات المتحدة بـ “نظام قائم على القواعد”؛ متجاهلةً أن هذه القواعد صمّمت لبسط (وتكريس) الهيمنة الأميركية على النظام الدولي الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية.
يبقى الخطر الداهم على الولايات المتحدة ماثلا في قدرة الصين المتنامية على تحدّي الهيمنة الأميركية، وتسجيل نقاط في سجل التنافس لصالحها، ليس في المجال الاقتصادي فقط، بل وفي مجال الذكاء الاصطناعي وغزو الفضاء، نجحت بزراعة الأرز في المحطّة الفضائية الصينية تمهيدا لتوفير الغذاء لمن سيسكنون الكواكب، ورفع قدراتها على التحسّس عبر المناطيد الطائرة والقواعد الثابتة، كالتي أقامتها في كوبا، وما يقلق الإدارة الأميركية الحالية أكثر عدم وضوح موقف الصين من الغزو الروسي أوكرانيا وخشيتها من تزويدها روسيا بالأسلحة والذخائر؛ على خلفية توجّس الصين من هزيمة روسيا وخسارتها ظهيرا ورديفا في مواجهة التنمّر الأميركي، وإفشال مهمتها في هزيمة العدوان الروسي.
يتّجه التنافس الجيوسياسي بين العملاقين إلى احتكاكاتٍ متزايدةٍ في ساحاتٍ عديدة ومعادلاتٍ معقّدة، ما يثير مخاوف دول العالم وشعوبه من انزلاق الموقف نحو مواجهة مباشرة نتيجة خطأ تقني أو سوء تقدير، فاللعبة باتت خطرة.
*نشر أولاً في العربي الجديد