لم يعد الصراع الجيو ــ سياسى الأكثر إثارة لانتباه الدول الفاعلة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا هو الحرب بالوكالة بين السعودية وإيران في اليمن، أو التنافس على النفوذ الإقليمي بين مصر وتركيا وإيران والسعودية والإمارات، أو خطر إلغاء إسرائيل لحق تقرير المصير الفلسطيني وتفريغها لحل الدولتين من المضمون الفعلي بسبب سياسات الأبارتيد والاستيطان والحصار في القدس الشرقية والضفة الغربية وغزة. لم تعد تلك الصراعات هي الأهم استراتيجيا، بل صار التكالب الثلاثي بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين وروسيا على تطوير أو بناء التحالفات مع الدول والقوى الفاعلة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وعلى الإسهام في تقديم الضمانات الأمنية لها وعلى الحصول على مزايا تجارية واستثمارية وعسكرية هو الاعتبار الناظم لما يجرى بين ظهرانينا ومن حولنا.
• •
رتبت إخفاقات الولايات المتحدة في حروبها باهظة التكلفة البشرية والمادية والمعنوية في أفغانستان والعراق ومعها حضور ما يكفي من موارد الطاقة في الداخل الأمريكي، رتبت تبلور توافق بين النخب التشريعية والتنفيذية داخل الحزبين الديمقراطي والجمهوري على ضرورة أن تخفض القوة العظمى من مستويات وجودها العسكري والأمني والتجاري والدبلوماسي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. انسحبت الولايات المتحدة من أفغانستان والعراق، تراجعت عملياتها العسكرية في سوريا واليمن، لم تهتم بالتورط الدبلوماسي والسياسي في إدارة الأزمة اللبنانية الممتدة، ابتعدت عن تفاصيل الصراع الأهلي في ليبيا واكتفت بالفعل عبر الآليات الدولية، اكتفت في منطقة شمال أفريقيا ومعها دول الساحل بالمواجهة الأمنية للتنظيمات الإرهابية.
بل إن نخب واشنطن، وبتوافق بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري، لم تطلق مبادرة دبلوماسية واحدة لاستعادة الاستقرار في الخليج بعد أن اشتعلت الحرب بالوكالة بين السعودية وإيران في اليمن واتسمت تداعياتها الأمنية بالخطورة البالغة عندما حدث هجوم مسيرات الحوثيين المدعومين إيرانيا على مصافي النفط السعودية (أرامكو) وعندما تكرر التصعيد العسكري بين ضفتي الخليج الذي تمر منه نسبة كبيرة من إمدادات الطاقة العالمية. كما أن نخب واشنطن، وذلك عبر إدارات أوباما وترامب وبايدن، توافقت على قصر الدور الأمريكي تجاه فلسطين وإسرائيل في قليل الجهود الدبلوماسية لمنع الانهيار الأمني في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وتأييد الجهود المصرية لاستعادة الهدوء ما أن تنهار الأوضاع، وتشجيع حكومات الدول العربية الصديقة على تطبيع علاقاتها مع إسرائيل (الاتفاقات الإبراهيمية بين الإمارات والبحرين والمغرب وبين إسرائيل). الخيط الناظم للسياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، إذا، هو خفض مستويات الوجود وتقليص الدور.
• •
في المقابل، دفع الاحتياج الصيني الهائل لإمدادات الطاقة الواردة من الخليج بضفتيه العربية والإيرانية، ومن الخليج يستورد العملاق الآسيوي ما يقرب من ٦٠ بالمائة من الطاقة، صانعي السياسة الخارجية داخل دوائر الحزب الشيوعي الحاكم إلى العمل المنظم على تطوير التحالفات الاقتصادية والتجارية والاستثمارية مع دول المنطقة والدخول في شراكات استراتيجية طويلة المدى.
وعندما اهتزت الأوضاع الأمنية في عموم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في أعقاب انتفاضات ٢٠١١ ثم تدهورت بشدة مع اشتعال حرب اليمن واتساع نطاق التهديدات النابعة منها إلى مصافي النفط في الخليج وتراجعت فاعلية الدور الأمريكي الضامن للأمن الإقليمي، انتقل صانعو السياسة الخارجية الصينية من الاقتصادي والتجاري إلى الدبلوماسي والسياسي والأمني بهدف استعادة الاستقرار وضمان إمدادات الطاقة وصون المصالح. ومهدت في هذا السياق حقيقة تقدم الصين لتصبح الشريك التجاري الأول لكافة دول المنطقة ولتصير صاحبة استثمارات واسعة في مجالات البنية التحتية والنقل والمواصلات وتكنولوجيا الاتصالات والتكنولوجيا عموما، مهدت للانتقال إلى تنظيم القمم الصينية ــ العربية والصينية ــ الإيرانية وتطوير التعاون مع تركيا وإسرائيل وبناء قاعدة عسكرية في جيبوتي ثم إلى الوساطة بين السعودية وإيران لاستئناف العلاقات الدبلوماسية وربما إنهاء الحرب بالوكالة في اليمن.
في المقابل أيضا، مكن التراجع الأمريكي مشفوعا بغياب الاستقرار في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وكارثة تعدد ساحات الحروب الأهلية والصراعات والتوترات السياسية المهددة لبقاء الدول الوطنية روسيا من توسيع مجالات فعلها الإقليمي لتتجاوز العلاقة الخاصة مع إيران والتحالف مع سوريا بمضامينه العسكرية والأمنية إلى الانفتاح على تعاون اقتصادي وتجارى وتصدير للسلاح وعروض لتصدير تكنولوجيا الطاقة النووية باتجاه مصر، ودول الخليج، والعراق، والجزائر. بل إن روسيا دعمت عودتها إلى الظهور كقوة كبيرة في المنطقة من خلال تدخلها بالوكالة وعبر «ميليشيا فاجنر» في حروب وصراعات دائرة كما في ليبيا منذ سنوات وكما في السودان مؤخرا.
- • •
مثلما تمكنت الدول الفاعلة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من إدارة علاقات وتحالفات متشابكة مع القوى العظمى إبان الحرب الباردة ونجحت، خاصة في خمسينيات وستينيات القرن العشرين، في التحصل على امتيازات استراتيجية حقيقية من «اللعب مع الكبار»، تسعى اليوم العديد من حكومات منطقتنا إلى الإفادة من تكالب الولايات المتحدة والصين وروسيا على النفوذ الإقليمي. وبينما يرحب أعداء الولايات المتحدة كإيران وسوريا باتساع دوري الصين وروسيا بغية الحد من الضغوط الأمريكية على المشروع النووي للأولى وعلى إعادة دمج الثانية في المنظومة العربية، يريد حلفاء واشنطن في القاهرة والرياض وأبوظبي وعمان وكذلك في أنقرة وتل أبيب ألا يقايضوا علاقاتهم التاريخية مع الولايات المتحدة بعلاقاتهم المتطورة مع الصين وروسيا وألا يضغط عليهم للاختيار بين القوة العظمى التي مازالت تحتفظ بالوجود العسكري والأمني الخارجي الأكبر في المنطقة وهى الولايات المتحدة، وبين قوة عظمى صاعدة هي شريكهم التجاري رقم واحد وتصير اليوم شريكا استثماريا وتكنولوجيا ودبلوماسيا هاما ومؤثرا وهى الصين وقوة عظمى ثالثة لها مواطئ قدم عسكرية تقليدية ولا تمانع في تصدير السلاح وتكنولوجيا الطاقة لسد فجوات في الأمن الشامل لدول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وهى روسيا.
ذلك هو جوهر التكالب الثلاثي الراهن على منطقتنا بعد أن اكتشفت واشنطن أن الانسحاب الكامل منها والتوجه الأحادي نحو آسيا والمحيطين الهندي والهادي للحد من تنامى القوة الصينية يعرض دورها العالمي ومصالحها الاستراتيجية لأخطار غير متوقعة، وبعد أن رسخت قناعة ضرورة المزج بين الدور الاقتصادي ــ التجاري ــ الاستثماري والدور الدبلوماسي لأمنى لدى صانعي السياسة الخارجية في بكين، وفى ظل بحث موسكو عن ساحات جديدة لمناوئة الدور الأمريكي وتقليص نفوذه.
*عمرو حمزاوي أستاذ علوم سياسية، وباحث بجامعة ستانفورد.
*نشر أولاً في صحيفة الشروق المصرية