منذ أكثر من سنة ونصف كانت الدعوات قد بدأت داخل حركة النهضة التونسية لطرح موضوع الفصل بين السياسي والدعوي ضمن النقاش الداخلي للحركة. “نحن بصدد التحول إلى حزب يتفرغ للعمل السياسي، ويتخصص في الإصلاح انطلاقًا من الدولة، ويترك بقية المجالات للمجتمع المدني؛ ليعالجها، ويتعامل معها من خلال جمعياته ومنظومة الجمعيات المستقلة عن الأحزاب، بما في ذلك النهضة”.
بهذا الإعلان لرئيس حركة النهضة التونسية، راشد الغنوشي، في السابع من مايو 2016 يؤسس الغنوشي مرحلة جديدة في تاريخ الحركات الإسلامية في الوطن العربي عموما، وداخل حركة الإخوان المسلمين على وجه الخصوص، مرحلة “يتميز” فيها الدعوي عن السياسي، فإلى أي مدى سيكتب لهذه الخطوة النجاح، وهل ستحذو الحركات الإسلامية حذو حركة النهضة في هذه الخطوة؟
إشكالية الدعوي والسياسي تعد من أعقد الإشكاليات التي تواجه الحركة الإسلامية المعاصرة خاصة بعد أن فُتحت أبواب السياسة بعد ثورات الربيع العربي التي دفعت الإسلاميين إلى الواجهة، ومن خلال رصد اتجاهات الحركة الإسلامية تجاه هذه الإشكالية نجد أن هناك ثلاثة اتجاهات: اتجاه ينادي ويضغط من أجل الفصل بين الدعوي والسياسي، وثان يرى التمييز لا الفصل بين الدعوي والسياسي، وثالث يرى أن فصل أو تمييز الدعوي عن السياسي ما هو إلا مشروع رديف لمشروع فصل الدين عن السياسة، وهي دعوة إلى علمنة الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية؛ لذلك كثُر اللغط والحديث عن هذا الأمر.
منذ أكثر من سنة ونصف كانت الدعوات قد بدأت داخل حركة النهضة التونسية لطرح موضوع الفصل بين السياسي والدعوي ضمن النقاش الداخلي للحركة، وستكون الخطوة العملية في أواخر مايو الجاري حين ينعقد المؤتمر العاشر للحركة.
تعد حركة النهضة التونسية من أنضج الحركات الإسلامية العربية سياسيا وفكريا، إذ ما قورنت بالحركات والأحزاب الإسلامية المشرق العربي ومصر، يعود ذلك لعدة عوامل منها الانفتاح بين الحركة والغرب والذي حثها على خلق هوية سياسية معقولة في الخارج والداخل مع وجود تمايز بين ما هو ديني وسياسي.
يأتي على رأس تلك الحركة المفكر الإسلامي راشد الغنوشي، فهو المنظر الأول للحركة وهو صاحب كتاب “الحريات العامة في الدولة الإسلامية” والذي يعد من أهم الكتب التي رفدت المكتبة الإسلامية في التنظير الفكري والفلسفي لواحدة من أهم القضايا على مستوى الحياة عموما والسياسة خصوصا وهي قضية “الحرية”، كان الغنوشي قد طور تلك الرؤية والفلسفة على مدى ثلاثة عقود تقريبا، توصل خلالها إلى تصورات ورؤى لعديد من القضايا الجدلية التي تعيشها عموم الحركات الإسلامية، وبعد أن وصل إلى ممارسة السياسة واقعا رأى بأن الوقت قد حان لتنتقل هذه التصورات إلى الممارسة الفعلية.
بالإضافة إلى تصوره حول التمييز بين السياسي والدعوي، له تصور آخر يخالف فيه ما هو سائد عند عموم الحركات الإسلامية في العالم العربي، وهو تصوره لقضية “الخلافة الإسلامية”، حيث يرى أن “الخلافة ليست مسألة شرعية، بل قضية محل اجتهاد، وليس عليها إلزام شرعي وفقهي، وأن دور الدولة، ليس فرض الإسلام أو نمط معين على المجتمع، ولكن مهمتها حفظ الأمن العام، وحماية الحريات، وإقامة العدل” وهو كلام متقدم على أطروحات الحركات الإسلامية حول هذه القضية.
تمييز أم فصل بين السياسي والدعوي؟
يقول أحمد قعلول القيادي بحركة النهضة في لقائه على الجزيرة مباشر إن اللوائح الجديدة للحركة لا تتحدث عن فصل بين ما هو سياسي وما هو دعوي لكن تتحدث عن تحديد التخصص بمعنى أن حركة النهضة تتخصص للعمل الحزبي، وأن العمل الأهلي سيكون في أطر مجتمعية أخرى. وأضاف قعلول أن الإجراء الأخير من جانب الحركة لا يتطرق إلى علاقة الدين بالسياسة، فالحزب له مرجعية إسلامية وله رؤية تعتمد على فهم الإسلام، على حد قوله.
ومن وجهة نظر هاجر عزيز عضو حركة النهضة التونسية، في تصريحات لـ”ساسة بوست”، فإنّ الفصل بين الحزب والحركة، يعني عدم تدخل الحركة في رسم السياسات المُحددة والتفصيلية للحزب، أو تحديد مواقفه السياسية؛ “فالحزب له قيادة مستقلة “مجلس شورى ومكتب تنفيذي”، وله انتخابات تنظم هذه القيادة، وأقصى ما يقع من الحركة، في علاقتها بالحزب، نقاش عام في مجلس شورى الحركة حول المسار السياسي، لا يدخل فيما بعد التوجهات العامة، ولا يلزم الحزب وقيادته بشيء”.
إذن فهو تمييز وتخصص لا فصل تام بين السياسي والدعوي، وهو ما أكده الغنوشي قائلا “الوقت حان لكي نتجه إلى نوع من التخصص، لأن المشروع الإسلاميّ مترامي الأطراف، والحزب الذي نتجه إليه هو حزب عصري متخصص في شؤون الدولة”. مبررا ذلك بأن حركة النهضة ولدت “حركة شموليةً لأبعاد الإسلام، ولكن اليوم تغير الزمن ولم تعد هنالك حرب هوية في تونس”، مضيفا هذه المعركة حُسمت لصالح البلد باعتباره بلد عربي مسلم كما نص على ذلك الدستور.
وبخصوص الجوانب الأخرى من المشروع الإسلامي، كالفنون والآداب والأعمال الخيرية والنقابية والدعوية والمساجد، قال الغنوشي حسب ما أورده موقع العربي الجديد، “لها مؤسسات أخرى تتولى رعايتها والعمل معها في المجتمع المدني”.
وقال الغنوشي في افتتاح المؤتمر الجهوي لحركة النهضة بولاية تونس، إن النهضة متجهة في مؤتمرها القادم المزمع تنظيمه في الأسابيع المقبلة إلى التخفف من بعض أعبائها، من أجل أن تتخصص في الشأن الحزبي والسياسي، وتوكل بقية الأنشطة والاهتمامات إلى بقية التنظيمات في المجتمع المدني.
هي خطوة جيدة تخطوها حركة إسلامية مثقلة بسلطة التراث القديم على الحاضر والواقع، وهي جيدة لأن من سيقوم بها لحركة لا فرد، وهذا يعني إحداث حراك فكري وسياسي سيكون تأثيره أسرع من أطروحات المفكرين الفردية هنا وهناك، لكن هذه الخطوة ليست كافية برأيي في حل إشكالات أظنها ستبرز لاحقا وستؤول لأن تختار الحركة الفصل التام بين ما هو سياسي ودعوي، فيفترقان دون أن يلتقيا، حزب سياسي يمارس أعماله السياسية، ومنظمات مجتمع مدني تقوم بدور دعوي وتربوي واجتماعي وتعليمي وفكري دون أن تتصل بالأحزاب السياسية.
بمقارنة سريعة بين نهضة تونس وإصلاح اليمن نجد أن حركة اليمن وإن كانت إلى حد ما متقدمة سياسيا، إلا أنها لازالت في الجانب الفكري تعاني جمودا قد يمنعها أو يقف عائقا أمامها لأن تخطو مثل هذه الخطوة، فالحزب الذي ركز منذ بداية التسعينات على التوسع الكمي في كل فئات المجتمع صار يخشى أي رؤية فكرية جديدة قد تحدث شرخا بين أفراده، ففي مؤتمره بعام 2007 بالكاد نجح الحزب في أن يقر دائرة خاصة بالمرأة ضمن دوائر أمانته العامة، تلك الخطوة البسيطة كادت أن تشق الحزب بعد أن أصر التيار المتشدد فيه على حرمة ذلك العمل واعتبار ذلك مخالفا للشريعة!
أخيرا: هل تعلم إصلاح اليمن نصف الدرس مما جرى لإخوان مصر، وتعلمت نهضة تونس الدرس كاملا؟؟