الجبير خلال عام.. واجه إيران بـ«العصا».. وألقى «جزرة» إلى الحوثيين
عندما ألقى عميد الدبلوماسية العربية الراحل الأمير سعود الفيصل كلمة أمام مجلس الشورى السعودي، لم يدر في خلد أحد أنه يُسمع الزمان كلماته الأخيرة قبل أن يغادر المنصب والحياة معاً بعد أشهر. يمن مونيتور/الحياة اللندنية
عندما ألقى عميد الدبلوماسية العربية الراحل الأمير سعود الفيصل كلمة أمام مجلس الشورى السعودي، لم يدر في خلد أحد أنه يُسمع الزمان كلماته الأخيرة قبل أن يغادر المنصب والحياة معاً بعد أشهر.
اشتكى الفيصل من أوجاعه الصحية، وضرب لها مثلاً من واقع الأمة العربية التي تعاني الوهن والضعف في مفاصلها الكثيرة والمبددة في أطراف الشرق الأوسط، وكأنه يوصي في كلماته لمن يعقبه ويحل في كرسيه، أنه يسلمه وطناً عربياً متضعضعاً وموجعاً.
لم يكن خلفه إلا سفير بلاده في الولايات المتحدة عادل بن أحمد الجبير الذي تعين قبل عام، وهو رجل ضليع بمهمات منصبه الأثير قبل تقلد منصب الوزير، الذي أضاف إلى قدراته وخبراته الدبلوماسية والسياسية البارعة حضوراً شعبياً لافتاً، سجله في عديد المواقف والمواقع التي احتفلت به.
تزامنت تسمية الجبير في منصب الخارجية السعودية مع لحظة تحول على صعيد البنية السياسية السعودية من خانة التحفظ والورع السياسي، إلى مرحلة أكثر وضوحاً ومباشرة في تناول الملفات العالقة بالمنطقة، تلهبها مجموعة من التبدلات المحورية في المنطقة بما دفع السعودية لزيادة حضورها وتفعيل دورها. جاء الجبير وبين يديه عديد الملفات الشائكة والمعقدة، بعد ما أحدثته انتفاضات الربيع العربي في المنطقة من فجوات واضطرابات زادت من ارتباك المشهد، وفتح ثغرات مكنت منافسين إقليميين لاختراق الواقع العربي ودسّ نفوذها في عسل الشعارات وبريقها.
البداية كانت من إعادة ترميم المكون الخليجي، بعد سلسلة اهتزازات نتيجة قلق المحاور بإزاء الانتفاضات الشعبية، ولكن الأهمية التي اكتسبتها منطقة الخليج وقيمة استقرارها في مواجهة حالات فشل بعض الدول المحيطة واضطرابها رفع من قيمة وجهة النظر الخليجية المعتدلة وزاد عليها من جهة أعباء وتكاليف الغياب العربي الصارخ المتفاقم بعد الثورات.
ثم انتقلت السياسة الخارجية السعودية بقيادة الجبير لمحاصرة النفوذ الإيراني المتزايد في ظل الاتفاق النووي الذي أعطى التحركات الإيرانية شرعية دولية وضوءاً أخضر ليس جديداً منذ الصبر الاستراتيجي الذي لم يكن أكثر من سكوت يستبطن الرضا على تجاوزات إيران.
تلك التجاوزات التي بلغت ذروتها غير الأخلاقية في سورية بدعم نظام بشار الأسد الذي أعمل القتل بشعبه، واستدعاء الحليف الروسي «الأعمى» في كل مرحلة تميل فيها الكفة لغير صالحهم، فضلاً عن تفخيخ الأرض السورية بالميليشيات العراقية واللبنانية والأفغانية.
وبقيت السعودية مصرة على رحيل الأسد، عبر معادلة الجبير الشهيرة، إما بحل سياسي أو آخر عسكري، لا بديل عن مغادرة الأسد بعد استضافة الهيئة السورية العليا للمفاوضات في الرياض، وقد جمعت كل الفصائل وخيبت النوايا في عدم التئامهم، وقطعت دابر الاختراقات التي كانت تستهدف مسار الثورة ونهايتها.
«حزب الله» اللبناني قائد الميليشيات المقاتلة على الأرض السورية لمصلحة بشار، أقحم لبنان في أتون الحرب ضد الثورة من أجل حق الحرية والعيش بكرامة، ودخلت لبنان في نفق الفراغ الرئاسي لما يقترب من العامين، واستخدمت السعودية دورها السياسي الجديد عبر الضغط على الأطراف اللبنانية وسحب الدعم عن الجيش والأمن هناك لعزل الحزب الأصفر عن مصير «بلد الأرز»، وأزيد عن ذلك بحشره في زاوية الإرهاب وتصنيفه علناً على هذا النحو، وحثّ المحيط العربي والإقليمي على تعميم الانطباع نفسه نحو من يبيع أوهام المقاومة ويعتاش عليها.
الدور السياسي نفسه للسعودية في العراق استعاد وهجه بإعادة تسمية ثامر السبهان سفيراً سعودياً هناك بعد انقطاع لـ25 عاماً، انتهت بدفع السفير السعودي إلى واجهة بغداد ومزاحمة النفوذ الإيراني هناك.
وتتجلى السياسة السعودية الحازمة في العاصفة التي أطلقها التحالف العربي في اليمن لمواجهة نفوذ الحوثيين وميليشيات المخلوع صالح، بعد أن كادت تبسط نفوذها على الخاصرة الجنوبية للسعودية وتبيع ولاءها لإيران، لولا نباهة وإقدام السعودية على الخطوة الجريئة.
بلغت العلاقة مع إيران أوج تأزمها بعد قطع العلاقات مع طهران على خلفية إحراق السفارة السعودية هناك والقنصلية في مشهد، وكأن خط الرجعة بدأ يتوارى عن الأبصار.
وجاءت سلسلة الإدانات التي دعمتها السعودية في المحافل الإقليمية والدولية على تصرفات إيران وتدخلاتها في المنطقة انتصاراً للمنطق السعودي بإزاء السلوك الميليشاوي لطهران، كان آخرها بيان القمة الإسلامية في إسطنبول الذي دان عبث إيران بدول سورية واليمن والعراق.
ولم تتوقف السعودية عند هذا الحد، بل أمعنت في تجفيف الحضور الإيراني في القارة السمراء، بعد توسعها الكبير هناك، وصرفت فيه طهران من قوت شعبها وتنميته، قبل أن تقوضه الرياض وتهدم أحلام الاستثمار وبنى الطائفية هناك.
وعلى هامش الثورات العربية، لاسيما السورية التي اضطرت لحمل السلاح في وجه آلة القتل بيد النظام، استعاد التشدد شوكته التي كسرت منذ اشتداد القبضة الأمنية عليه وإذابة النداءات المدنية من عميق الشعارات الثورية لمبرراته، بينما تبلورت خلال أعوام انحساره نقمة فادحة انفجرت في شكلها الداعشي أخيراً وهي أكثر دموية ووحشية، وكأن التاريخ يكرر نفسه، إذ سريعاً ما بث التنظيم خلاياه العنقودية المبعثرة في جسد العالم العربي المتداعي، وعواصم الدول الأوروبية. حمل الجبير «عدته» الدبلوماسية النافذة، وعلى خطى سلفه سعود الفيصل أنجز التحالفات الدولية والعسكرية على مستويات عدة لمواجهة استفحال هذه الظاهرة، وشرع في إبداء وجهة النظر السعودية لتنزيه العقيدة والسياسة التي تتبناها الدولة عن أية تهمة تربطها بذلك الفكر الدموي الذي يستغل الدين ويوظفه في سبيل آيديولوجيته المنغلقة، وكانت التحالفات التي نظمتها السعودية علامة ظاهرة على سطوة الحضور في اللعبة الدولية.
تتصدى السياسة الخارجية السعودية لمهمة تعويض الانهيار العربي بعد تلقيه سلسلة من الصدمات السياسية والاقتصادية المنهكة، وهي تحاول عبر تجميع ما تبقى من حياة في الدول والشعوب العربية القائمة وإطفاء حرائق الربيع العربي استنهاض الواقع وحماية عرى المنطقة.
يبدأ ذلك ولا ينتهي بإعادة ترتيب أوراق القاهرة وضخ الحياة في عروقها، وموضعة الحضور التركي بما يخفف من الشكوك المتبادلة ويعزز التعاون المفيد لكلا الأطراف، يزيد من حتمية ذلك الانسحاب الأميركي المتوقع بعد حضورها الباهت منذ اعتلاء أوباما منصة حكم الحليف التاريخي لدول المنطقة، وكتب قائمة من المناسبات غير المبشرة لمستقبل العلاقة.
تتمتع السعودية بسياسة ناشطة ساعدت الجبير خلال عامه الأول في المنصب على إضفاء كثير من القوة إليها، وهو الماهر في الحديث، والخبير بظروف السياسة وأخلاقها، وعبر حسابه على «تويتر» يشكل ظاهرة سياسية غير مسبوقة في العالم العربي، خصوصاً بعد أن رمى ما اعتبر «جزرة» في وجه الحوثيين، تستكمل عملية السياسة السعودية المستوفية الأبعاد.