عدنان الصائغ: الشعر من المنفى إلى الوطن
يمن مونيتور/ القدس العربي
يتسم الشاعر العراقي عدنان الصائغ، بأنه يتنفَّسُ الشعر، يعيشه ويتعايش معه لحظة بلحظة، فهو يمارسه كنشاط روحي وصلاة محبة، يهمس من المنفى ومن كل بقعة يزورها إلى وطنه العراق، لمدنه ونخيله وأنهاره، وحتى عندما يزور العراق ويتجول في مدنه ومنتدياته الأدبية والثقافية يظل يمارس الهمس في فرحه وحزنه، لا يضيع وقته للدخول في صدامات أدبية ولا شعرية ولم يبحث عن منصب ولا جائزة، كأنه أورفيوس العراق، التواق للحلم والباحث عن الحقيقة، حقيقة ذاته الإنسانية وحقيقة الواقع بتناقضاته وصراعاته ووحشيته وهو ليس ذلك الضبابي المتشائم، بل هو شاعر يحلم ويحلم ويعشق ويحب الحياة والزهور ويرش عطر شعره ونثره باعثاً المحبة والأمل.
تتنوع قصائد عدنان الصائغ وتتميز بنوع خاص من الدرامية وتحركات صورية ديناميكية، يملك كل أنواع العدسات والألوان، يمازج بينها بشعرية تجعلنا نتأمل ونغوص معه في حلمه ونتشارك معه لحظات الخوف والقلق، وقد تكون القصيدة لحظة واحدة في شكل لقطات قليلة سريعة على شكل ومضات وقد تكون نصاً مفتوحاً طويلاً:
«بعد قليلٍ ….
أمرُّ
أدفعُ الحياةَ أمامي كعربةٍ فارغةٍ
وأهتفُ: أيها العابرون
احذروا
أن تصطدموا بأحلامي»
هنا مثلاً في هذا النموذج المشهدي، يُعبِّرُ الشاعر عن رؤيته للحياة فهي كعربة فارغة من الحمولات المادية والزخرفات الزائلة، كصوفي لا تغرية ما يزخر به الواقع من مادة أثقلت أغلبنا وجعلتنا كالعبيد لها فنركضُ ونلهثُ، أما هو فهو الشاعر، وأستخدم هنا فعل (أهتفُ) وهنا الهتاف أقرب للهمس وأبعد من الصراخ، عدنان الصائغ لا يحبذ الصراخ ولا نجده في أي موقف يدعو للعنف، بل هو دائماً يدين كل أنواع العنف والقسوة القديمة والجديدة، هنا في هذا النموذج يحذر الآخرين من العابرين بأن يحذروا الاصطدام بأحلامه، فهي كل ما يملك وهو لا يسعى أن يملك غيرها أو يقايض بها، أو يتخلى عنها، أو يتكسب بها. وهو في بعض ومضاته التي تشبه زخة مطر كافية ووافية في جعلنا نرتوي حتى الثمالة:
«قبل أن يكملَّ رسمَ القفصِ
فرَّ العصفورُ
من اللوحة»
لا نحتاج إلى معلقة مزخرفة وبليغة ومتخمة بالجناس والتشبهات و.. و.. هنا كأنه ومضة هايكو ساحرة وملهمة، فالرسام هنا يرسم القفص وهو يجهل ماهية العصفور وطبيعته التواقة للحرية والحلم والفضاء المفتوح اللامحدود. العصفور ربما يمكننا من فهم أنه الشاعر الحر، وقد نختلف ولدى كل واحد تأويله وفهمه الخاص، لكننا سنتفق بالتأكيد أن القداسة هنا للحرية، فهي منحة إلهية للإنسان وليست هدية من حاكم. كثيرة هي الأقفاص التي أصبحنا نسجن أنفسنا فيها وقد تغرينا مثلاً الشهرة أو المنصب.. ربما فهم أيضاً بعض الحكام اللعبة فصنعوا للمثقف والشاعر والفنان مجموعة من الأقفاص المزخرفة المثيرة بالمغريات لنبيع لهم أحلامنا وندخل طواعية لهذه السجون ونأخذ أشياء مادية مقابل الروح والطهر والحلم، يحتمل النص كل التأويلات والنظر إليه من زوايا مختلفة.
لم يعد عالمنا جميلاً ومثالياً وتعددت أساليب التعاسة والتشويهات وكثرت مظاهر القسوة والعنف لكن الصائغ يتمسك بالخير والأمل ويخاطب قاتليه والمعتدين الأشرار:
«ماذا يَحْدُثُ
في شكلِ العالمِ!؟
ماذا يَحْدُثُ لو..!
بدلاً من أنْ تزرعَ في صدري طلقةْ
تزرع
في قلبي
وردةْ»
نحن هنا لسنا مع منطق الضعيف المستسلم، بل على العكس الأقوياء هم الذين لا يركعون من أجل لحظة حياة، ولا حتى الخلود الدائم، هم من يدينون ويقلقون قاتليهم ويتسببون في سقوط عروشهم، وهم من يرتقون السموات ليكونوا حكايات وأساطيرَ ومنبعاً ملهماً للثورة والتحرر.
يحلل الشاعر، واقع وطنه المتأزم ويبكي ألمه ويقول:
«يا مطراً يشخبطني على الأوراق، كيف ألـمّني؟
وطناً تناهبهُ الطغاةُ،
أو الغزاةُ،
أو الظلاميُّون،
أو جيشُ العمائم
أو فقلْ ما شئتَ: شعباً جائعاً وحقولُه عاثتْ بها الغربانُ»
لا يكتفي الشاعر هنا بالهمس السلبي، قد يكون الهمس أكثر قوة من الصراخ، الهمس الروحي والفكري وليست العبارات الصراخية المستهلكة، يستسلم للمطر وحتى للنار، ولا يهمه هنا ألا يكون بطلاً مخلداً ولا أيقونة ولا حتى رمزاً بسيطاً، نظرته وهمومه هناك.. حيث الوطن المنهوب من الطغاة والغزاة وطيور الظلام وأصحاب العمائم.. حيث تعددت المصائب وتعددت وسائل النهب والقمع، هؤلاء يسرقون قوتنا وأحلامنا وإنسانيتنا، يتركوننا للجوع وغوله والتعاسة والعذابات المرعبة.
لا يتفاخر الصائغ بإقامته الأوربية، ولا يتنازل عن أصوله وعراقيته وعروبته، حتى وهو يحكي ويسرد جزءاً من معاناته:
«وطني حزينٌ أكثر مِمَّا يجب
وأُغنياتي جامحةٌ وشرسة وخجولة
سأتمدَّدُ على أولِ رصيفٍ أراهُ في أوروبا
رافعاً ساقيَّ أمام المارّةِ
لأُرِيهم فلقاتِ المدارسِ والمعتقلاتِ
التي أَوْصَلَتني إلى هنا
ليس ما أَحمِلُهُ في جيوبي جوازُ سفر
وإنَّما تاريخُ قهر»
«وطني حزين» وكأنه لا يحدد العراق وكأنه يقولها بالجمع أوطاننا أو ينطق نيابة عنا، يُعبر عن وجعنا الجماعي، الذي يتضخم كل لحظة، الجموح والشراسة والخجل تجتمع في أغاني وقصائد شاعرنا، وهنا التمزقات الداخلية والجروح الدامية التي لا يراها لا طبيب ولا حبيب، يصور الصائغ مشهداً سريالياً ليفضح أزماتنا التي لا تنتهي، علامات العنف ضد المبدع نجدها مادية ومعنوية، هذا المشهد الذي يتسم بالفانتازيا وهو يريد العالم كله أن يرى قبح الاستبداد والمستبدين بنا هناك وهنا، كأنه لا يعفي هذه الحكومات والمنظمات الدولية، التي ساهمت بدعم الفوضى التي تحدث في أوطاننا هناك.