بين هاتين الصفتين دار الحوار حول ظاهرة كيسنجر، وكل طرف فى هذه المنظومة يدافع عن خبرته وفكرته التى كونها عنه، وهكذا يحدث عادة مع كل عبقرى استطاع أن يقدم نظرياته فى المجال الذى اختاره وتخصص فيه محاولًا تطبيقها على أرض الواقع، فما زلنا نقرأ ونسمع عن عبقرية كيسنجر السياسية فى مقالاته واتصالاته وسلطاته وتفرده، وفى ذات الوقت ومن الطرف الآخر نسمع عن رأسماليته وديمقراطيته المزيفة والمغلفة بديكتاتورية سياسية.
عرف عن هنرى كيسنجر القدرة على شرح أفكاره وقدرته على الإقناع لكل من يريد إقناعه، بطريقة ما أو أخرى، أو كما يقولون يمكنه أن يقنعك بالرأى وعكسه فى ذات الوقت، وهذا يتوقف على الرسالة التى يريد أن يوصلها لك، وقد وضح ذلك لنا فى تدخله فى قضايا الشرق الأوسط كقضية فلسطين المستعصية على الحل، وقضية النزاع الإسرائيلى العربى ما بين عامى ١٩٤٨م إلى ١٩٧٣م، ومباحثات السلام التى انتهت بخروج إسرائيل من كل الأراضى المحتلة عدا فلسطين، وأجزاء من الأردن، وتقديمه الحلول بذكاء شديد وحرفية سياسية لأطراف النزاع، وقد نجح غالبًا فيما أراده. ما يميز هنرى كيسنجر أنه يجعل من يتحدث معه ينصت له بانتباه ووعى شديدين، وذلك بطريقة عرضه الواضحة لأى حل يفترضه فى أى أزمة ساخنة، وهكذا كانت قدرته على الإقناع.
- • •
ولد هنرى ألفريد كيسنجر فى ٢٧ مايو ١٩٢٣م، فى جنوب ألمانيا النازية ثم هرب إلى إنجلترا ومنها إلى أمريكا، وكأى فيلسوف أو دبلوماسى أو قائد فذ فى أى مجال تكوّنت لديه عدة أطروحات يختار من بينها الحل الأفضل من بين الحلول المطروحة، ويخرج به مقنعًا جميع أو معظم الأطراف على الأقل، وبلا شك أن التفكير الدقيق بهذه الصورة لا يتقنها إلا إنسان ذكى وسياسى قادر على تقديم حلول للآخرين بصورة مقنعة، فى الوقت الذى يستعيد فيه كل الحلول المطروحة واحدا بعد الآخر دون أن يقوم بالتهوين من هذه الحلول أو يسخر منها، بل بالعكس، ما يفعله هو أن يتخذ الحل من الحلول المقدمة من الآخرين بطريقة أو بأخرى، وكأنه يستنبطه من كلماتهم وحلولهم، ففى البداية يقبلها جميعًا ثم يستخرج منها الحل الذى يكون منطقيًا وواقعيًا ومقبولًا من الأكثرية.
كان كيسنجر يقوم بهذا وينجح فيه، فقد كان يقدم الحلول مستنبطًا من كل متحدث جزءًا يضمه إلى الأجزاء الأخرى للمتحدثين حتى يصل إلى الحل المثالى الذى كونه فى ذهنه، قيل عنه على لسان إنديك «إذا كانت الدبلوماسية هى فن نقل فكر القادة السياسيين إلى أماكن يترددون فى الذهاب إليها، فإن كيسنجر يكون سيد اللعبة».
كما أنه لا يقلل من رفض الذين قدموا حلولًا للمشكلة من قبله، وهناك بشر يتقنون هذه العملية الذكية بحيث لا يُسفه أى حل قبل حله، بل يشير إلى كل حل ــ مهما كان مفترضًا ــ أنه قيل من فلان أو علان… إلخ، ثم يقدم الحل الذى يراه، وهذا الأمر يُطلق عليه المصريون «الكياسة».
والكياسة تعنى أنك فى أى مجال تسمع ما يقال بصبر، ثم تحاول أن تبحث فى هذه الحلول عن أجزاء من الحل الشامل الذى تريد تقديمه، ولقد شاهدت أولئك الأذكياء الذين لديهم القدرة على الحل، وقد وصلوا إلى حلول مقنعة، لكنهم فى طريقهم وهم يقدمون الحل المقنع يشيرون لكل من تكلم قبلهم مقتبسًا كلمة قيلت من فيه، أو حركة أو إماءة، ثم يقدم الحل الذى يراه وكأنه جاء من معظم من سبقوه بطريقة أو أخرى، وهكذا يضع الذين تكلموا قبله بمجرد أن تُذكر أسماؤهم، وهنا يضمن قبول المُقترح لأنه لم يقدمه كاقتراح خالص ومكتمل وعبقرى من حضرته، لكن لأن كل المتكلمين السابقين أوحوا له فى كلماتهم بالحل الذى يراه حتى لو كان هذا ليس واضحًا للجميع، لكنه استقى من حلولهم العبقرية الحل الذى يقدمه، ومن هنا يمكنه أن يقنع الجمهور بسلاسة، فقد كان رجلًا اجتماعيًا لكنه مراوغ.
- • •
لقد سعى هنرى كيسنجر إلى القوة والشهرة الإعلامية وتقرب من كبار المسئولين والصحفيين المؤثرين، كما حقق فى فترة من الزمن شعبيةً لم يحققها أحد من الدبلوماسيين اللاحقين. وقد صُنف الرجل بالأكثر شعبية فى أمريكا حسب استفتاء «جالوب» عامى ١٩٧٢م و١٩٧٣م.
حصل هنرى كيسنجر على جائرة نوبل للسلام عام ١٩٧٣م بفضل مفاوضاته التى أدت إلى اتفاقية باريس للسلام، والتى أنهت العمليات العسكرية الأمريكية فى فيتنام. وقد أطلق الصحفيون عليه لقب «العبقرى» و«الأذكى» فى الساحة خاصة بعد رحلته السرية إلى بكين فى يوليو ١٩٧١م، والتى مهدت الطريق لزيارة الرئيس نيكسون إلى الصين فى فبراير ١٩٧٢م. سماه السياسيون المصريون «الساحر» لدوره فى اتفاقيات فض الاشتباك التى أدت إلى إنهاء الحرب فى الشرق الأوسط عام ١٩٧٣م.
نجح كيسنجر أكثر من مرة فى جمع أكثر من زعيم للقاء مع الزعيم المقابل، أو المختلف معه لكى يصلا إلى حل وسط فى منتصف الطريق، وهكذا نجح فى عقد قمة بين الرئيس نيكسون، رئيس أمريكا حينئذ، والزعيم الصينى ماو تسى تونج وهكذا تأسست العلاقة بين الصين والولايات المتحدة، ولا شك أن معظم العرب أو الشرق أوسطيين يعرفونه جيدًا وذلك لأنه أحدث تحولًا رئيسيًا فى منطقة الشرق الأوسط عندما قاد الوساطة الأمريكية كما قلنا سلفًا لوقف إطلاق النار بين مصر وسوريا من جهة وإسرائيل من الجهة الأخرى، وهكذا أتاح بعد ذلك عقد اتفاقات كامب دافيد للسلام بين الرئيس المصرى الراحل محمد أنور السادات، بطل الحرب والسلام، وبين رئيس الوزراء الإسرائيلى الأسبق مناحم بيجين.
من المعروف أيضا أن هنرى كيسنجر قد فرض نفسه وجها للدبلوماسية العالمية عندما دعاه الرئيس الجمهورى ريتشارد نيكسون إلى البيت الأبيض فى ١٩٦٩م ليتولى منصب مستشار للأمن القومى ثم وزير الخارجية. وقد شغل المنصبين معا من ١٩٧٣م إلى ١٩٧٥م.
ويعد من المعروف عالميًا أن كيسنجر شخصية فريدة، وقد اعتبر المؤرخ الأسكتلندى البروفسور نيال فيرغسون أن الرئيس الأميركى الأسبق باراك أوباما كان «كيسنجريا بالممارسة» مع أنه «لم يطلب نصيحة كيسنجر بشكل دورى»، على غرار ما يفعله العديد من زعماء العالم.
- • •
من الجدير بالذكر أنه رغم وصول كيسنجر المائة عام، إلا أنه ما زال فى قمة لياقته الذهنية والفكرية والعملية بل ويطلب مشورته الكثير من رؤساء العالم خاصة تجاه مخاطر النزاعات الدولية، ولقد اتفق الكثيرون من المحللين والصحفيين الكبار أن هنرى كيسنجر جمع بين الدبلوماسية النظرية ومحاولة تطبيقها على الأرض وكانت له جمل مأثورة أمثال «الدبلوماسية.. فن تقييد القوة»، و«التاريخ منجم زاخر بالحكمة التى قد تجد فيها المفاتيح الذهبية لمشاكل حاضرنا«، ونجح فى ذلك أكثر من مرة خاصة فى الاتفاق بين مصر وإسرائيل، وهكذا أنقذ الشرق الأوسط الذى استُنفد فى حروب لا طائل من ورائها وبلا حسم حقيقى، وهذا من الناحية الإيجابية».
بينما بعض المحللين اعتبروا كيسنجر هو سيد اللعبة الماهر بين الدول المتحاربة والمتخاصمة، وهو المنافس لميكافيلى صاحب مقولة «الغاية تبرر الوسيلة»، بينما هنرى كيسنجر كانت له مقولة مشابهة «سيطروا على النفط وسوف تسيطرون على الأمم.. سيطروا على الغذاء وسوف تسيطرون على الناس». وهكذا من خلال هذه المقولة وتلك يتلاعب كثير من السياسيين للفوز بالمكاسب بغض النظر عن أى مبادئ أخلاقية أو دينية أو إنسانية يجب اتباعها.
*نشر أولاً في صحيفة “الشروق” المصرية