أيوب طارش.. الريفي الذي وحّد اليمن
ابتسام القاسمي
لو لم يغنِّ الفنان اليمني، أيوب طارش؛ فكيف كنّا سنتعرف إلى أغاني الريف الجميلة بالغة الأحاسيس والعذوبة؟
حينما يصدح صوت “أيوب”، تلقائياً تحضر روح أبي الذي رافقه في مقيله وسفراته، هيامه وأنسه ومزاجه، الصوت الذي عاش معنا عقوداً، ورافقنا في السفر والمقيل، حتى صار جزءاً مقدّساً من ذكرياتي مع والدي.
في أول شبابي لم يرقني أيوب بالمرّة، فأنا من جيل الإيقاع السريع والأغنية الشبابية، وكنت أستغرب أيّ تماهٍ يحدث بين أبي ودندنات أيوب، حتى لفتتني في مقيلٍ ما أغنية له من كلمات الشاعر، أحمد جبالة، يقول في بدايتها:
قد كنت عديت للعتاب دفاتر
وقلت في نفسي والقلب حاير
أجاب حتى لم أطف أخابر
إلا عيوني تستجير بالله
لاحظت فيها أنّ القفلة في كلّ مقطع تكون ذكر لله (من الفراق يا ناس أعوذ بالله، شاصبر عليه حتى يرده الله، ومن يراه حتماً يسبح الله)، إضافة إلى لحن الأغنية الذائب في صوت أيوب الشجي، وأدائه المفعم بالحزن والإحساس. فقلت لأبي: “الأغنية هاذي كلها ذكر الله، كأنها تسبيح مش أغنية”. ومنذ ذلك اليوم، تحوّلت هذه الأغنية إلى شفرة موسيقية بيني وبين أبي؛ فلا يسمعها أحدنا إلا ويتذكر الآخر.
إنّ الأغاني التي شيّد بها أيوب القروي البسيط تاريخه لم تكن غزلاً تقليدياً، بل مشبعة بتفاصيل لا يستشعرها إلا إنسان عميق الإحساس، كان الفنان الأوّل الذي خاطب التفاصيل الصغيرة التي يتأملها المزارع في يومه، إذ يقول في إحدى أغنياته: “أخضر من الله لا مطر ولا شي”، وصارت هذه العبارة متداولة تستخدم كمثل للغزل، وتحدّث عن الحب في المشاعر المحافظة بخجل القروي المحافظ الخجول “كم حن لك قلبي يا حبيبي وانت ولا لك علم”، كذلك فإنّ “زفته” لا تزال في الصف الأول في أفراح اليمن بطولها؛ فأيوب فنان كبير احتوى الكبار والصغار، علم شامخ بشموخ وطن، عريق رغم نزفه.
لا ضير في أنّ أيوب أفضل وأنجح من غنّى قصائد شاعراليمن، عبد الله عبد الوهاب نعمان الفضول، بصوته الدافئ وإحساسه المرهف، وألحانه التي تعزف على أوتار القلوب، مخلدّاً تلك القصائد، كقوله:
من أجل عينك وا حبيب القلب شاكرم ألف عين
واصبر واداري قلوب قد حبين لكن نسين
هذا فضلاً عن تلحينه لكلمات النشيد الوطني اليمني بعد توحيد اليمن في 1990 (رددي أيتها الدنيا نشيدي)، فردّدت الدنيا نشيده بالفعل. ومن التهوّر حصر نجاحه الفني بقصائد “الفضول”، فأيوب برز منذ أول أغنية أطلقها (بالله عليك وا مسافر)، وهي من كلمات أخيه الشاعر، محمد بن طارش، وقد لحنها بنفسه، وما زالت الأغنية إلى اليوم تلامس وجدان اليمنيين.
الفنان أيوب طارش لم يكتفِ بهذا، إذ وحّد الوطن بفنه حتى وصل إلى أغوار الإنسان التهامي البسيط، فغنّى له من كلمات الشاعر، علي عبد الرحمن جحاف أغنية “واطير امغرب”، وتمكن من أداء اللهجة التهامية الصعبة على غير أهل تهامة بروح حقيقية تقنع السامع له بأنه تهامي اللهجة والمنشأ والإحساس، يغني في مقطع من الأغنية في من يختار هجر بلده:
ميان إم عز من فارق ديار إم حبايب
وكيف يهناه زاده
من سيب أم زهب وأم وادي وحوش إم زرايب
وعن هواها شرد
بعد إم طمع في سواها
صدق لي إم شواد
وقال ما عاد يشاها
يهناه عيش إم نكد
مادام فارق رباها
كما غنى للشاعر، حسن عبد الله الشرفي، قصيدة ريفية يقول فيها:
مطر مطر والضبا بينه تدور مكنه
يا ليت وأنا سقيف
يا ريت أنا خدر بدوي كلهن يدخلنه
لوما يروح الخريف
يا ليتني كوز بارد وحدهن يشربنه
على شويه صعيف
حينما جمع حبّ الوطن الكبار، أنتجوا لنا الفن الجميل الصادق الذي خلدهم، ووصلوا جميعاً بفنهم إلى كلّ ربوع الوطن، ونجحوا في توحيد نبضه. من المعيب بعد كلّ هذا أن ندس بالفنان الكبير، أيوب طارش عبسي، في مهاترات طائفية تتعارض مع رسالته الوطنية، فأيوب وحد اليمن بصوته الدافئ وحبّه الوطني الصادق، وحقّق ما لم يحلم بالوصول إليه آلاف الأكاديميين المفلسين المتسوّلين للفت الأنظار من طريق إثارة الجدل بالتبجّح والتطاول على من فاقهم نجاحاً ووطنية بأزمان.
أيوب ينتمي إلى كلّ ذرة تراب في هذا الوطن، إلى كلّ نقطة عرق تذرفها جباه الـ (ضباحى)، إلى همسات العشاق الحسّاسين، والوطنيين الذين ينتمون إلى وطن عريق بجروحه المثخنة.
المصدر: العربي الجديد