كتابات خاصة

سأعود ومعي اليمن

أحمد الرافعي

تهاوت مديريات شمال الشمال أمام زحف التتار، أبناء “المسيرة القرآنية” الذين يلقون السلام تفوح منهم رائحة البارود. ينسجون الأحلاف المشبوهة في طريقهم نحو امتلاك السلطة.

في مأرب وعلى رأس جبل هيلان الذي كلف مع كتبيته بحراستها
افترش رفيقنا بساطه النحيل واستلقى على مجموعة من الصخور المستوية وصنع لنفسه من الأردية البالية وقاء من حر الظهيرة، حملها على عكازات شائخة.. تلمع حبات رمل الصحراء، والجبال الجرداء يتصبب فيها العرق وبجواره تأخذ بندقيته قيلولتها.
آهٍ يا مأرب.
 يا صحرائنا التي يخضر من كفاحها قلب اليمن.
فتح هاتفه يقرأ ما أرسلت له زوجته. كان مشغولاً عنها بالأمس في صد هجمات الحوثيين التي اشتدت ضراوتها منذ أعلن عن بدء الهدنة!
مضت دقائق الأمس محملة بالتوتر والصبر ولوازم الكفاح، وحملت على أكتافها خمسة من الشهداء وأحد عشر جريحاً من جبهة المقاومة.
لا يدري كم قضى نحبه من الجبهة المقابلة، لكنها بالتأكيد، تفوق قتلاهم وجرحاهم عددا.
هل يليق الفخر والتباهي بنصر سقطت فيه دماء يمنية؟!
أحس بمرارة من رحلوا، الذين كان لهم، وبلا شك، زوجات يخرجون سويةً الى البيداء في الظلام، وعلى ضوء القمر يفترشون مائدة الحب والشوق ويشربون كؤوس اللهفة.
وراء كل قتيل قلوب تنتظر عودته بفارغ الجزع.
خرجت تنهيدة من كبده: (قاتل الله من أدخل البلاد أتون الحرب والشقاء).
الشمس تصب جام غضبها في هذه اللحظات وتتلون الصحراء بلون العذاب ويخلد الجميع إلى السلام.. وهو سلام تحتضن ساعاته كل تجهيزات حرب الساعات القادمة.
ما زال ينتظر تغطية الموبايل ليصل خط الانترنت. الانترنت هو النافذة الوحيدة التي يطل بها على أهله.
لمح على الجوار رفاقه الموزعين على الثكنات والثغور وأسلحتهم تلمع على رائحة الشمس، وهناك في الأفق تتراقص صور الجبهة المقابلة ودباباتها مرصوفة على أهبة الاستعداد، تنتظر شارة القصف. تلك الدبابات التي اشتراها الخصم من قوت الشعب، ها هي ترمي الآن بنيها باللهب المستعر، وتشق طريق العودة للخائبين!
لا يمر يوم إلا وتلهبه سياط الأسئلة: عن هذا السلاح الذي يحمله، وخيارات الكفاح المسلح؟ وعن مأساة الحرب التي يشهد ويلاتها كل ساعة؟
تمنى لو كانت الأيام توفر له طريقاً للتراجع والنكوص.
تمنى لو كان في الأمر ضبابية تدفعه للحيرة فيسهل التراجع.
في الحرب تندر العزاءات.
لكن الخيارات واضحة، لا يلتبس الأمر على من يقتحم هذا الخيار المعروفة نتائجه.
لم يترك الحوثيون و”صالح” عذراً يمنعنا من هذا الخيار المر.
قصته هو بالذات أكبر إدانة للقتلة..
لا يترك لك هذا الحلف القذر ترف الخيارات، بل يصنعون ببلاهتهم وسوء ضمائرهم وسياساتهم الفاشية طريقاً واحداً.
أين كان قبل أن يعرف اصبعه طريق الزناد؟
في همدان كان بيته. بيته الذي بناه بعد لأي وادخار، وصار مأواه مع بنتيه وأبنائه الأربعة، وآوى إليه والدته المسنة بعد أن منّ الموت على الده بالرحيل. وهل كان قلب والده المريض وهو الجمهوري المسن يحتمل عودة صرخات الملكية مرة أخرى؟
تهاوت مديريات شمال الشمال أمام زحف التتار، أبناء “المسيرة القرآنية” الذين يلقون السلام تفوح منهم رائحة البارود. ينسجون الأحلاف المشبوهة في طريقهم نحو امتلاك السلطة.
جاؤوا إليه يطلبونه بغرورهم المستفز، وكان قد اختبأ كما نصحه الرفاق في العاصمة صنعاء.. تسعة طقوم حاصرت منزله في عصر ذلك اليوم.
لم تنته القصة هنا.. بل بدأت.
تبدأ باتخاذ موقفك الواضح المفاصل حين يدوسك الحوثيون وأحذيتهم تقهقه. ولا يتركونك إلا جثة حطوا في قلبها ألف منبر للثأر.
كان الضحية هي بيته.
أغمض عينيه حين مر قطار الذاكرة من هنا من؛ دموع أمه المسنة وهي تستغيث البرابرة وقد رموا بملابسها وما خبأته من ذكرى والده الراحل. يعرف كم كانت أشياء والده تحملها على الابتسام. وتحقن روحها بالحياة.
أو حين صلب الحوثيون منزله..
كم يحتاج بناته وبنيه من الوقت لتمحو ذواكرهم دوي الانفجار. وصيحات التكبير؟!
هل ستقبل عقولهم لو امتد بهم العمر، هذا التناقض الذي يلصق فيه الحوثيون اسم الله بكل انتهاك ودوس لكرامة الانسان؟!
لا شك أن الله رأى ولده الصغير في ذلك الأصيل المر وهو يبحث مع دموعه في حطام البيت عن سيكله الذي أُهدي إليه قبل يومين.
هل يتعمدون محو قدسية الله من قلوبنا المغروس فيها إحساسنا برحمة الله بنا.
 نحن المقهورين المظلومين!
اتصلت به زوجته صباحاً في السابعة، وكان صوتها مهدودا كعشهم المحروق في ليلة الأمس.
يرمي بك الحوثيون في العراء، ويفتحون صوبك ألف باب للشماتة والضياع.
زرع الحوثيون حياته بالمفخخات. فقد بيته وبعد ها حول الحوثيون المؤسسة المدنية التي كان مديرها إلى ثكنة، وأصبح في عشرة أيام من أيام “المسيرة الجرانية” لاجئاً وفقيراً و…
مقاوم.
هو الاستخفاف الأحمق الممزوج بالاستكبار. إذاً من غرس في أصابعه المخالب ويمم بوجه حياته نحو الكفاح المسلح.
ليس حب الانتقام ورغبة الثأر من أرشده نحو طريق المقاومة.
بل حساباته البسيطة:
بأن بيتاً فجرته الميليشيات بلا ذنب ستلحقه آلاف البيوت.
وهذه “المسيرة القرآنية” سيسقط من شباكها وطن حوله الحوثيون إلى خرابة.
وسيصبح التشرد كلمة تلقي بحتميتها على كل جيل يقدس الحرية
لو أن الرصاص صمت.
للمرة الأولى يحتضن البندقية بود.
ألا تشتكي آلاف الأحضان كل ليلة غربتها عن من تحب. غربة ختمت تأشيراتها مدافع الحوثي!
الحوثيون من رسموا لهم خريطة اللجوء إلى البندقية.
وضمائرهم المشبوهة من حسمت تردده في المضي صوب طريق التعب المجاهد برضا من يحمل هم القضية.
قضية ترسم ألوانها أنات الوطن المغدور. وتكتب مرافعاتها أجيال الغد القادم المتألق من وراء الافق.
رن صوت من هاتفه، وظهرت رسائل زوجته المكتوبة من وراء الأفق.
من البعيد..
الذي ينتظر عودته محملاً بالحنين والحب.
ومحملاً باليمن.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى