فاينانشيال تايمز: باتريك جنكينز
هناك مفارقة تجري في قلب ما أصبح يعرف بأزمة تكاليف المعيشة في بريطانيا. مع استمرار ارتفاع التضخم عند أكثر من 10 في المائة، قالت “سيتيزن أدفايس”، التي تقدم إرشادات مجانية في قضايا الديون ومخاوف المستهلكين الأخرى، أخيرا إنها ساعدت عددا قياسيا لأكثر من 600 ألف شخص في الأشهر الأربعة الأولى من العام، بزيادة 6 في المائة عن الفترة نفسها من 2022.
مع هذا لا تبلغ البنوك البريطانية سوى عن أدلة قليلة على تخلف عملائها عن سداد اقتراضهم. زاد “لويدز”، أكبر بنوك الأفراد الرئيسة في الدولة، مخصصات الائتمان قليلا في الربع الأول من العام، لكن حصيلة قروض العملاء الأفراد المصنفة على أنها ضعيفة ظلت مستقرة – عند 1.2 في المائة فقط من الإجمالي. وارتفعت الأرباح نحو 50 في المائة، بفضل اتساع الفارق بين ما يدفعه البنك للمودعين وما يفرضه على المقترضين. وأبلغت بنوك أخرى عن اتجاهات مماثلة.
هذا النمط يحدث في أماكن أخرى من العالم. نعم، شهدنا بعض الانهيارات المصرفية الدراماتيكية – بين المجموعات المصرفية الإقليمية في الولايات المتحدة وفي سويسرا. لكنها كانت جهات مقرضة أفلست بسبب موجة سحب من المودعين المذعورين، والتنظيم المتساهل، والإدارة السيئة عموما. لم تقع في ورطة للأسباب المملة التي ربما توقعتها، أسعار الفائدة المرتفعة أدت إلى عجز العملاء عن تحمل اقتراضهم.
يفسر التعارض جزئيا بالتأثير المتأخر، إذ يستغرق الأمر بعض الوقت حتى يتخلف الفرد الذي لديه ميزانية محدودة عن سداد بطاقة الائتمان ولكي يظهر في النتائج الفصلية.
لكن مصرفيين وناشطين يفترضون على حد سواء تفسيرا آخر، يتم صرف أعداد متزايدة من الناس عن النظام المصرفي الرسمي وعزلهم عنه، لذا لا يظهر أنهم مقترضون يواجهون مشكلات في السداد.
نشرت “بلند”، منصة إقراض نظراء، بحثا أخيرا يشير إلى أن عدد الذين يشعرون بأنهم “معزولون” عن النظام المالي قفز 40 في المائة العام الماضي، مع خفض البنوك الإقراض الأكثر خطورة، يشعر أكثر من ربع سكان المملكة المتحدة الآن بأنهم مستبعدون من النظام المالي والرقم يقارب النصف لمجتمعات السود والأقليات العرقية.
تجادل “يو كيه فاينانس”، مجموعة ضغط تمثل البنوك والمجموعات المالية الأخرى، بأن التنظيم جزء كبير من المشكلة. الضوابط الصارمة على المخاطر والقيود المفروضة على المنتجات ذات الفائدة المرتفعة استدعت اضطرار البنوك إلى التخلص من العملاء الأفقر.
في الوقت نفسه، كانت جهات إقراض الأموال غير الخاضعة للتنظيم أو شركات التكنولوجيا المالية الخاضعة لتنظيم ضعيف، مثل صناعة “اشتر الآن وادفع لاحقا” المنتشرة، يملأون الفجوة. عبر ديفيد ليندبرج، رئيس قسم خدمات الأفراد في بنك نات ويست، لـ”فاينانشيال تايمز” أخيرا عن قلقه إزاء نمو نظام “ائتمان الظل”، (جهات غير مصرفية تقدم الائتمان)، عالي التكلفة.
تلتزم حملة التثقيف والشمول المالي الخيرية المدعومة من “فاينانشيال تايمز” بتسليط الضوء على المشكلات الناجمة عن هذه العوامل المحركة ودعم تعليم مالي أفضل.
مؤسسة خيرية أخرى، فير فور أول فاينانس، التي تدير مئات الملايين من الجنيهات المتروكة في حسابات مصرفية راكدة، تتدخل مباشرة في الأجزاء المفلسة من سوق الإقراض لتخفيف الضغط على الأفراد المثقلين بالديون.
أمضت الأشهر الأخيرة في إجراء دراسة أولية جنوب مانشستر، شملت الاتحادات الائتمانية المحلية والمنظمات غير الربحية، قدمت قروضا بقيمة بضع مئات من الجنيهات لكل قرض بلا فوائد للمحتاجين.
للتوسع على الصعيد الوطني، يعد دعم الجهات المقرضة الكبرى أمرا ضروريا، لكنها تأبى تقديمه. يجادل المصرفيون بأن الفوائد المجنية من القدرة على تحمل تكاليف قرض ما بلا فوائد على شيء بأسعار تجارية ليست إلا فوائد ضئيلة، ما يجعل المبادرة غير ضرورية. تقول “فير فور أول” إن هذا القول يفوته ذكر النقطة التي تفيد أن القرض دون فائدة يجلب الناس إلى النظام المصرفي السائد – الذين لولاه سيتم رفض قبولهم كمقرضين، ما يمنحهم فرصة لبناء سجل سداد ائتماني. ثلث أولئك في الدراسة الأولية ممن سددوا أموالهم صاروا مؤهلين لقروض تجارية.
البنوك من جانبها تتعامل أخيرا مع جانب آخر من الاستبعاد المالي وذلك في مبادرة لفتح 200 إلى 300 فرع مشترك – أو “مراكز مصرفية” – على مدى الأعوام الثلاثة المقبلة في المواقع التي أغلق فيها آخر بنك. “حتى الآن هناك خمسة”.
زعزعت الأحداث الدرامية الأخيرة في الولايات المتحدة وسويسرا ثقة العامة بالقطاع المصرفي للمرة الثانية في 15 عاما. حتى لو لم تنتشر هذه المشكلات، فإن شروط الائتمان آخذة في التشديد بالفعل. ومن اللازم لكي يتم ترخيصها لأداء أعمالها أن تضمن البنوك -وصناع السياسات الذين يوجهونها – أن إدارة مخاطر الائتمان مدروسة ولا تتبع استراتيجية استبعاد الناس من النظام المالي.