لعلّ السؤال الرئيس؛ إلى أيّ مدى يمكن بالفعل أن تكون قمّة جدّة بدايةً جديدةً لمحاولات إعادة بناء النظام الإقليمي العربي، بعدما تفكّك وانعطب، وترك ذلك فراغاً استراتيجياً كبيراً؟
جاءت بنود “إعلان جدّة” رتيبة تقليدية، لا تحمل أي تصوّر جديد أو مبشّر لإدراك جديد لحجم المتغيرات الخارجية والداخلية التي يمرّ بها النظام الرسمي العربي. ومن الواضح أنّ لغة التسكين (سكّن تسلم) طاغية عليه في كل الملفات التي تناولها، ولم يكن هنالك منظورٌ جديدٌ يعيد قراءة تحدّيات الأمن القومي العربي وكيفية حل المشكلات التي تواجهه، ولا حتى تطوير منظور أكثر واقعية للمصالح العربية المشتركة والتعاون بين الدول العربية.
مع ذلك، من الضروري القول إن انعقاد القمة في هذه اللحظة وجمع القادة العرب في مكان واحد، وإعادة التأكيد على مركزية القضية الفلسطينية، تحمل رسائل يحاول ولي العهد السعودي، مهندس القمة الأخيرة ورئيسها، محمد بن سلمان، تقديمها للعالم، خاصة بعد الاتفاق السعودي الإيراني، وإعادة سورية إلى جامعة الدول العربية (وقف قرار تجميد الأنشطة)، ما قد يحمل بذوراً لعملية استدراك رسمية عربية على ما حدث منذ عقدين من تراجع متسارع في تماسك النظام الإقليمي العربي وقدرته على القيام بوظائفه.
بالطبع، لا اللغة ولا الأفكار الواردة في الإعلان الختامي تمثل 1% مما يرغب فيه المواطنون العرب، في كل مكان، فمحاولة التماسك والوقوف مرّة أخرى على الخريطة الإقليمية، وقول كلمة: نحن هنا للعالم، تحتاج إلى “فكر استراتيجي” جديد، وقدرة على مخاطبة الآخرين بلغة مختلفة عن اللغة التقليدية، وإقناع الأطراف الأخرى بأنّ هنالك تصوّراً جديداً للمصالح المشتركة العربية، وليست المسألة مجرّد مقال إنشائي لا قيمة واقعية أو عملية له.
من الواضح أنّ السعودية تسعى لتكون المركز الرئيس في النظام الإقليمي العربي اليوم، وهي تشقّ طريقاً مختلفاً تماماً الدور التقليدي للرياض في النظام الإقليمي، ومن الواضح أن ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، أراد إرسال رسالة إلى العالم أنّ هنالك ترتيبات جديدة في المنطقة، وأن الدول العربية مشاركة فيها، وما قام به من خطوات استباقية نحو إيران وسورية يأتي في هذا السياق، لكن المهم أن تكون هنالك حلول ممكنة واقعية، مرتبطة بحوار استراتيجي مع كل من إيران وتركيا على السواء.
ملفات سورية وليبيا واليمن والسودان عاجلة بحاجة لخريطة طريق يتفق عليها العرب مع القوى الدولية والإقليمية، فمن الواضح أن سيناريو التقسيم أقرب إلى عدد من هذه الحالات للآسف الشديد، وربما يحتاج الأمر إلى أن يدرك القادة العرب أنّ ترميم النظام العربي لن يكون من خلال الديناميكيات السلطوية التي أدّت إلى إضعافه وانهياره من الداخل، والخارج، ثم أوصلت هذه الدول إلى مرحلة خطيرة من الحروب الداخلية!
إذا لم تترافق محاولات “استعادة العرب” كنظام إقليمي، والقدرة على الجلوس على الطاولة طرفا مفاوضا وليس مُتفاوضا عليه، لن يتأتى إلاّ في مراجعة عميقة للأوضاع الداخلية، والمطلوب أن يكون هنالك جهد موازٍ تماماً للجهود الخارجية داخلياً، للوصول إلى “معادلات” مقبولة، ليس فقط في الدول التي تعاني من حروب وأزمات أمنية وسياسية عاصفة، بل حتى التي تعيش استقراراً هشّاً على صفيح ساخن من الاستبداد وقمع الحريات وإلغاء اعتبارات حقوق الإنسان وكرامته.
يأتي العالم العربي في المرتبة الأولى على مستوى العالم اليوم في نسب النازحين واللاجئين، وإهدار (واستنزاف) الثروات المادية والبشرية العربية مرتبط بالإصرار على خيار السلطوية والاستبداد لدى جميع الدول العربية، وهو خيار لن يكون مفتاحاً لمستقبل أفضل، بل أسوأ بكثير وتكرار سيناريوهات الماضي البائسة.
وإذا كانت الديمقراطية عملية تاريخية ومرحلية، فلنبدأ بما يمثل رسائل مرتبطة بفلسفة الحكم العربي تعيد الثقة للإنسان العربي بأن ما هو قادم سيكون أفضل وليس أسوأ وأخطر. وتتمثل هذه المسألة الأخيرة في تقديم تصوّرات عملية واقعية في التكامل الإقليمي العربي، وهو أمر من المفترض أنه أسهل من السياسي، والمصالح الاقتصادية ستكون القاطرة لإعادة تصميم المصالح السياسية المشتركة بين الشعوب والحكومات، فعلى الأقل هذه الخطة يمكن تنفيذها واقعياً وبأقل تعقيد من الجوانب الأخرى.
*د. محمد أبورمان باحث في الفكر الإسلامي والإصلاح السياسي، وزير أردني سابق
نشر أولاً في صحيفة “العربي الجديد”.