22 مايو: اليمن الواحد المُدان!
يمن مونيتور/القدس العربي
لم يبتل بلد بموقعه كما ابتلي اليمن؛ فها هي ذكرى إعادة تحقيق وحدته 22 ايار/مايو تحل للعام الثالث والثلاثين، وقد بلغ الحال ببعض أبنائه أن يتنكروا لهويته، ويستدعوا هوية أقرها المستعمر في وثيقة الاستقلال، وكان قد سبق وحددها اسما لجغرافية إدارته للمنطقة المحتلة والمحمية مستعمرة عدن والمحميات؛ وهي المحميات التي أطلق عليها اسم اتحاد إمارات الجنوب العربي، وضمت سلطنات ومشيخات الجزء الجنوبي من اليمن باستثناء بعض سلطنات ومشيخات حضرموت.
في المستهل نستعيد الشاعر عمرو بن أبي ربيعة من القرن السابع الميلادي؛ وقد بات قريبا من لحج على أبواب عدن وهو يقول:
تقولُ عِيْسِي وقد وافيْتُ مبتهلاً «لَحْجاً» / وبانت ذُرَى الأعلامِ من «عدنِ» / أَمُنْتَهى الأَرْضِ يا هذا تريدُ بِنَا؟ / فَقُلتُ كَلَّا، ولكـنْ مُنْتَهَـى «اليَمَنِ».
مهمة هذه السطور ليس إثبات يمنية هذه الجغرافيا ووحدتها، إذ تؤكد الأحداث والوقائع عبر تاريخ اليمن القديم والحديث أن وحدة اليمن هي الأساس، وأن الفرقة المتقطعة التي شابت بعض مراحله هي الاستثناء. وعلى ما شهده البلد من فرقة لم ينكر جزء منه يمنيته مطلقًا إلا مَن كان يعمل تحت سلطة المستعمر البريطاني خلال احتلاله لعدن في إطار خطته لإحداث قطيعة ثقافية بين شمال وجنوب اليمن، كعادته في كل البلدان التي احتلها متبعا سياسة «فرق تسد».
هذه الحقيقة ليست نتاج لحظة انفعالية بل حقيقة تؤكدها دراسات تاريخية وانثروبولوجية أكدت جميعها أن اليمن أرضاً وشعباً موحد جغرافيا، بل إن تنوع مفردات منظومته الثقافية يعزز توحده أكثر مما ينفيه.
لقد شهدت بعض الحقب في تاريخ اليمن حالات تجزؤ؛ وهو أمر طبيعي تشهده معظم البلدان إن لم يكن جميعها، لكن هذه الحالات لم تتجاوز التجزئة السياسية، التي فرضتها مطامع الحكم الضعيف وأطماع القوى الخارجية. وها هي تتكرر الحال اليوم وإن بسيناريو مختلف يستهدف الهُوية اليمنية الجامعة خوفًا من عودة التوحد الجامع، كما كان عهد اليمن على امتداد تاريخه.
في دعوى الانفصاليين الجدد ما يُدين مشروعهم. فقد ظهرت دعاوي الانفصال في التاريخ المعاصر عقب إعادة تحقيق الوحدة بعامين، وتجلت بشكل عملي في 21 أيّار/مايو عام 1994 بإعلان نائب الرئيس الأسبق علي سالم البيض، ما عُرف بـ«فك الارتباط» وإعلان استعادة جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، فيما بقت خصومتهم من الهوية الجامعة غائبة، ولم تظهر الخصومة بهذا الشكل الفج مع الهوية إلا في الألفية الثالثة، وتحديدا في العقد الثاني منه، وخلال الحرب الراهنة، ضمن مشروع كبير بات مكشوفا تماما، إذ أن من يرفعون شعار فك الارتباط اليوم يؤكدون رغبتهم في العودة إلى ما قبل عام 1990 وفي ذات الوقت يرفعون اسم دولة الجنوب العربي، بينما ما قبل عام 1990 لم يكن هناك دولة اسمها دولة الجنوب العربي، بل جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية. فمن أين جاء التوظيف السياسي لاسم الجنوب العربي؟ ولماذا لم يطالب الانفصاليون الجدد بالعودة إلى ما قبل عام 1967 ما دام الهدف استعادة اتحاد إمارات الجنوب العربي؟
لقد ظهر لأول مرة هذا الاسم في خمسينيات القرن الماضي، وهي التسمية التي أطلقها المستعمر على المحميات المجاورة لعدن من الجزء الجنوبي من اليمن؛ والتي أطلق عليها اتحاد إمارات الجنوب العربي؛ وهو الاتحاد الذي كان يضم بعض مشيخات وسلطنات جنوب اليمن؛ وهي المشيخات والسلطنات التي سقطت جميعها عقب الاستقلال عام 1967؛ مع إعلان الثوار استقلال جنوب اليمن، وقيام جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية؛ وهو التحرر الذي قادته الجبهة القومية لتحرير واستقلال جنوب اليمن،هكذا كان اسمها؛ وهي التي وقعت وثيقة الاستقلال، والتي أيضا كان علمها هو علم الجمهورية اليمنية حاليًا، وإن كان المستعمر قد أدخل في وثيقة الاستقلال اسم الجنوب العربي؛ فهذا لا يعطي الانفصاليين الجدد حقا لاستهداف هُوية عمرها آلاف السنوات، ومن ثم من متى كانت وثائق المستعمر حجة على الدول المستقلة؟
قبل المستعمر البريطاني كان اليمن في التاريخ الإسلامي ولاية في دولة الرسول ومن ثم في دولة الخلفاء، ومن ثم ولاية في دولة بني أمية وتبعها دولة بني العباس، ومن ثم الدويلات المستقلة بدءا من الزياديين (205-402 ه) ومن ثم في دولة الصليحيين ودولة الرسوليين ودولة بني طاهر وغيرها؛ وكانت هويته معروفة باسم اليمن، وفي عام 943هـ بدأ العثمانيون حكم اليمن، وهو الحكم الذي شمل اليمن كله، وظل موحداً في إطار هذه الدولة، وتحت حكمها، مع ظهور واختفاء كيانات سياسية صغيرة وكثيرة، ولكن الأهم من ذلك – حسب ورقة للباحث الاكاديمي الراحل صالح باصرة عن خلفية الوحدة اليمنية – هو التوحد اليماني في الكفاح ضد ظلم النظام العثماني، وولاته في اليمن.
وقال باصرة: قادت هذا الكفاح الموحد الدولة الزيدية وحتى تحقيق الاستقلال وجلاء القوات العثمانية عام 1636. وتأسست – بعد ذلك الجلاء – دولة يمنية موحدة عرفت بالدولة القاسمية، ولكن ظلم بعض حكام وعمال هذه الدولة، وصراع بعض أفراد الأسرة القاسمية وادعاء أكثر من شخص من هذه الأسرة أحقيته في منصب الإمامة، وكذا بدء صراع أوروبا الاستعمارية على اليمن أدى في نهاية المطاف إلى نشوء كيانات سياسية صغيرة متنافرة، ومتصارعة، وبالتالي تقسيم اليمن سياسياً.
ووفر هذا المناخ السياسي والاقتصادي السيئ – حسب باصرة – ظروفاً مناسبة لاحتلال بريطانيا عام 1839 وانطلاقها من عدن إلى شرق وجنوب اليمن واخضاعها لنفوذها، وفي ذات الوقت أعادت الدولة العثمانية سيطرتها على شمال وغرب اليمن، وذلك منذ عام 1849م وحتى 1872م وهو عام دخولها صنعاء عاصمة اليمن، بدأ في التكون إطارين جغرافيين وسياسيين في اليمن عُرف لاحقا ًبجنوب اليمن وشمال اليمن، وتم تعميد هذا الانشطار بخط حدودي عُرف بخط حدود النفوذ العثماني والنفوذ البريطاني في اليمن في عام 1905 وسجل رسمياً في عام 1914 أي قبل بدء الحرب العالمية الأولى ببضعة أشهر.
مما سبق يتضح أن اليمن كان واحدا حتى جاء المستعمر البريطاني، وأوجد الحدود كعادته؛ لكن أن يتم الاعتماد على سياسته ورؤيته في سلخ جنوب اليمن عن شماله في الوقت الراهن فهي لعبة ساذجة لقوى خارجية بهدف تقسيم اليمن من خلال استهداف جذوة هويته الثقافية هذه المرة، كما تشهد بلدان عربية أخرى؛ فاليمن ليس بمنأى عما يحاك ضد المنطقة بهدف افراغها من عوامل قوتها. فاليمن يحتل موقعا كان عبئا عليه في ظل ضعف دولته، وتسبب له بإشكالات كثيرة على مدى تاريخه، وكان سببا لجلب الغزاة من الرومان والأحباش إلى البرتغال وغيرهم. لكن أن يصبح اليمن مدانا بوحدته وهويته الجامعة فتلك مشكلة ثقافية؛ لأن من يمررون هذا المخطط هم جزء من أبناء هذا البلد، فلِمَ يحصل ما يحصل في اليمن؟
سؤال مهم؛ لأنه يواجه إدانة اليمن الواحد بتوجيه أصابع الاتهام بعيدا عنه؛ باتجاه من يتربصون به ويكيدون له ويريدون أن يرونه متشرذما متشظيا ليسهل عليهم ابتلاعه باعتباره يجلس على موقع استراتيجي، ويحوز من الإمكانات ما قد تجعله منافسا وحاضرا بقوة في حساب ما يرونه قوة لهم يحافظون عليها من خلال الاستحواذ على جزر وممرات مائية تمثل مصدرا لتهديدها في حال خرجت عن سيطرتها. ولهذا كان لابد من اشغال اليمن بلعبة تزيحه عن خريطة الفاعلية، وتبقيه محاصرا بمشاكل لا تنتهي، وليس أفضل من استهداف هويته وإشغال بعض أبنائه بالدعوة لهوية جديدة، مقابل آخرون يدافعون عن الهوية الجامعة؛ وقبل ذلك تفخيخ البلد بمجموعات مسلحة ممولة خارجية، بما يجعل القوى الخارجية متحكمة بقوى الداخل؛ وبالتالي يبقى الوضع تحت السيطرة.
في الذكرى 33 لإعادة تحقيق الوحدة اليمنية في 22 ايار/مايو الجاري، نستحضر كم كانت البهجة اليمنية عامرة لحظات رفع علم الجمهورية اليمنية الواحدة في عدن، إذ استعاد اليمنيون لأول مرة منذ سنوات طويلة، شعورهم بالاعتزاز والاعتداد، إلى أن تم تسميم الوحدة برغبة استعلائية استحواذية اعتمدت سياسة الضم والالحاق في التعامل مع الجنوب. لكن المشكلة هنا ليست مع الوحدة بقدر ما كانت مع القائمين على السلطة، وبالتالي لا يمكن إدانة الوحدة؛ لأنها قيمة سامية وليست أداة فعلية، وبالفعل تمت دراسة القضية الجنوبية بمسؤولية عالية، وتم الاتفاق على التحول إلى نظام فيدرالي اتحادي كوسيلة لضمان التوزيع العادل للسلطة والثروة، وهنا سقطت حجج الانفصاليين بالعودة إلى ما قبل عام 1990؛ فاستحدث الممول سيناريو مختلفا يعود إلى حقبة الاستعمار، ليس لاستهداف الوحدة بل لاستهداف الهوية، وصولاً إلى التعامل مع سنوات الوحدة باعتبارها احتلالا يمنيا للجنوب العربي؛ وهو ما يلقى صدى لدى البعض في ظل الأوضاع المعيشية المتردية، والتي، غالبا، تكون بيئة خصية لتضخيم الأحلام الوردية التي سيحققها الانفصال.