من جملة ما أسفرت عنه حرب اليمن من الكوارث نزوح ملايين اليمنيين من بيوتهم، ومنهم مئات الآلاف من نخبة المجتمع؛ من المهنيين ورجال الأعمال والقيادات الاجتماعية والسياسية والعسكرية، الذين نزحوا إلى دول الجوار والعالم الأوسع، تاركين المجال للقوة المسيطرة في صنعاء (حركة أنصار الله الحوثية)، لتُحكِم سيطرتها على الدولة ومؤسساتها، وتعيد تشكيل هوية المجتمع بلونها المذهبي.
وقد نجحت الحركة في فرض سيطرتها، مستفيدة من إقفال مطار صنعاء الذي منع عودة تلك القيادات التي كانت ستعيق مشروع الحركة الرئيس وهو بناء نسختها الزيدية من “دولة طالبان”. وهناك من يعتقد أن الحكومة المعترف بها دولياً، أسهمت دون أن تقصد، في إنجاح ذلك “المشروع”.
اليوم، بعد أن أحكمت الحركة سيطرتها على مؤسسات الدولة، بما فيها جيش الدولة اليمنية، وأخضعت المجتمع لسلطتها البوليسية، لم يعد لكثير من أولئك النازحين إلا أن يرتبوا أوضاعهم في الخارج أو يعودوا قابلين بالنظام الجديد الذي تنصل، بالقول أحيانا وبالفعل أكثر الأحيان، من القيم القانونية والدستورية التي قامت عليها الوحدة، وعلى رأسها المواطنة المتساوية، فأصبحت التجاوزات على حقوق المواطنة التي كنا نأخذها على العهود السابقة، سياسة دولة وعرفا يُتّبع.
كثير من النازحين قرروا البقاء في بلدان اللجوء، لكن مئات الآلاف لا يزالون يتطلعون للعودة إذا تحقق السلام، السؤال الآن عن ماهية ذلك السلام المنشود؟
السلام المنشود
قامت الجمهورية اليمنية عام 1990 على دستور يضمن المواطنة المتساوية وسيادة القانون والتمكين السياسي عبر التعددية الحزبية والانتخابات، وكان حداً معقولا من تلك القيم يمارس ويحترم من قبل السلطات المركزية رغم التجاوزات الجسيمة التي كانت النخب المهيمنة ترتكبها. إلا أن تركّز السلطة، والفساد الناتج عن ذلك، كانا يقودان اليمن نحو هاوية الفشل الاقتصادي وخطر تفكك الدولة، فجاءت الانتفاضة الشعبية في 2011 احتجاجا على تلك التجاوزات والمطالبة بالإصلاحات اللازمة لترسيخ حقوق المواطنة والحد من الفساد، وأدت إلى استقالة الرئيس علي عبد الله صالح ونقل السلطة وبدء مرحلة انتقالية عقد أثناءها “مؤتمر الحوار الوطني” الذي أقر إصلاحات جذرية كان أهمها اللامركزية العميقة التي كانت ستتيح للمجتمعات المحلية حق إدارة شؤونها بعيدا عن هيمنة المركز ونخبته المتهمة بالفساد.
إلا أن الانقسامات الحادة أفشلت المرحلة الانتقالية، وتمكن “الحوثيون” بالتحالف مع الرئيس الأسبق من السيطرة على العاصمة صنعاء، وفرضوا الإقامة الجبرية على الرئيس الانتقالي وحكومته، واستطاع الانقلابيون بسط سيطرتهم على معظم المحافظات، وبدأوا بجملة من الاستفزازات التي أدت إلى تدخل التحالف الذي تقوده السعودية.
وقد تبين أن الانقلابيين لن يلتزموا بالحد الأدنى من حقوق المواطنة وسيادة القانون وأعطوا مسؤوليهم سلطة تقديرية تمكنهم من مصادرة حرية أي مواطن وأملاكه وحقوقه دون أن يكون له ملجأ قانوني يعود إليه، أو كما قال رئيس المكتب السياسي الراحل في “انصار الله” صالح الصماد: “أصغر مسؤول في الحركة يمكنه أن يودع أي مواطن في السجن، وليس باستطاعة أكبر مسؤول في الحركة إطلاق ذلك المواطن”.
خلقت تجاوزات الحوثيين بيئة طاردة، فحدثت موجة من النزوح والهجرة إلى الخارج كان على رأسها المهنيون ورجال الأعمال والقادة السياسيون والعسكريون والوجاهات الاجتماعية. وخلال السنوات الأخيرة عاد عدد قليل من النازحين الذين سلموا بالأمر الواقع، إلا أن الغالبية ما زالوا غير قابلين بالتسليم بسلطة الحوثيين المطلقة.
لا شك أن وقف الحرب سيمكن الكثير من العودة إلى بيوتهم، لكن العودة الجماعية لن تتم إلا بتوفر الحد المقبول من حقوق المواطنة وتوفر الضمانات القانونية ضد السلطة التعسفية لمسؤولي الدولة، ولن تتوفر تلك الضمانات إلا في إطار شراكة فعلية في السلطة.
الشراكة ممكنة؟
هل الشراكة ممكنة أم تبدو مستحيلة في ظل هيمنة الحوثيين على مؤسسات الدولة؟ أي حديث عن عودة الأطراف المناوئة للحوثيين إلى صنعاء للمشاركة في السلطة هو خيار صعب بحكم الأمر الواقع، إذ إن الجمهورية اليمنية منذ قامت لم تدِرْها المؤسسات الرسمية، بل كانت السلطة الحقيقية في مؤسسات موازية وشبكات موالاة خاضعة لرأس السلطة، بينما كانت المؤسسات الرسمية مجرد أدوات تنفيذية، وقد تبين لنا خلال الفترة الانتقالية أن السلطة لا تنتقل بتسليم رئاسة الجمهورية أو الحكومة كما تم في 2011، بل بالسيطرة على المفاصل الحقيقية للسلطة كما فعل الحوثيون على مدى سنوات توّجوها بقتل حليفهم الرئيس الراحل علي عبدالله صالح، حسب اعتقاد محللين.
لا يمكن ضمان المواطنة المتساوية بصيغة نظام الحوثي، ولا بصيغة نظام صالح. أما الشراكة التي شهدناها في الفترة الانتقالية فقد فشلت لأن السلطة التي تمركزت على مدى عقود بيد نخبة العاصمة ومارستها عبر شبكات الموالاة لم تكن تقبل القسمة لأنها ليست محددة بقانون، بل هي سلطة ظرفية تعتمد على مهارة صاحب السلطة، لذا لا نستطيع حتى تخيل الطريقة المناسبة للشراكة فيها.
إذن، الشرط الأساسي لبناء دولة سيادة القانون هو التخلص من التسلط الذي أسفرت عنه المركزية المفرطة، واعتماد اللامركزية العميقة التي تقوم على مبدأ أن كل الصلاحيات هي في الأصل للحكم المحلي في كل محافظة، يفوض بعضا منها للسلطة المركزية، حسب الحاجة. ولا يمكن استمرار اللامركزية السياسية والإدارية ما لم تصاحبهما لامركزية مالية، وتضمين الدستور بندا يقر بحق المحافظات في مواردها المحلية، على أن تشارك في تمويل الحكومة المركزية بنسبة معينة. كما لا يمكن للمحافظات الاحتفاظ بهذه الحقوق إلا إذا كان لديها من القوة الخشنة ما يردع السلطة المركزية عن السعي إلى إعادة تركيز السلطة مرة أخرى، وأعني بهذا أن تكون لكل محافظة قوتها الأمنية الرادعة.
لا تزال بعض النخب اليمنية ترفض هذه “الوصفة”، وترى أن استعادة الدولة لا تكون إلا بتركيز السلطة. وهي بهذا تراهن على “المستبد العادل” الذي سيأتي على حصان أبيض، وتتجاهل أن معظم المستبدين كانوا من عينة الرؤساء: علي عبدالله صالح، وصدام حسين، ومعمر القذافي، وبشار الأسد، وأمثالهم، وأن السلطة المطلقة شر مطلق. ولا تدرك تلك النخب أن فشل الدولة اليمنية كان بسبب غياب الضوابط التي تعقلن السلطة المركزية وأهمها التوازنات المستقرة بين السلطات الثلاث، وكذلك بين الدولة والشعب، وبين المركز والأطراف. كما أن عدم تجذر تقاليد سيادة القانون في الوعي المجتمعي جعل الضوابط الدستورية والقانونية على السلطة مجرد ديكور لا أنياب لها.
اللامركزية
بعد ثماني سنوات من الحرب، وبعد ملامح تفكك الدولة وتمزق جغرافيتها وانقسام مؤسساتها، لم يعد خيار المركزية ممكنا بأي حال من الأحوال. الصلاحيات التي يمنحها الدستور والقانون للسلطة المركزية أصبحت في أيدي المحافظات، ولم يعد بوسعنا إلا إصدار القوانين التي تشرعنها و “تعقلنها” أو نخسر وحدة الدولة، ولا أعنى بذلك الوحدة بين الجنوب والشمال، بل بين محافظات اليمن جميعها.
إن وقف الحرب خطوة في طريق السلام، ولكن الوصول إلى سلام دائم لن يتم إلا بتوافق اليمنيين على صيغة شراكة تتيح لكل محافظة إدارة شؤونها بذاتها، وتكون لها مواردها كما هو الحال في النظم الفيدرالية.
ولن يكون السلام دائما إلا بتوفر الشروط اللازمة للتنمية الاقتصادية. وأهم تلك الشروط أن يجد اليمن “الوصفة” المناسبة للخروج من الدوامة الجهنمية للتخلف. وأشير هنا إلى أن الدول القليلة التي خرجت من دوامة التخلف لم تعتمد “وصفة” واحدة، بل إن كل دولة وجدت “الوصفة” الخاصة بها، لكن معظم تلك الدول تشترك في أحد مقومات “وصفة التنمية” الناجحة، وهو التخفيف من الإنفاق العسكري والأمني إلى أدنى مستوى، وتوجيه الموارد نحو الاستثمار في الإنسان بالتعليم والخدمات الصحية. وقد اعتمدت دولة ما قبل 2011 على المساعدات الخارجية لتمويل التنمية، فيما خصصت معظم مواردها الذاتية لقطاع الجيش والأمن، لكنها بذلك لم تشتر إلا عدم الاستقرار وفشل الدولة.
لقد كان الإنفاق الدفاعي خلال تلك الفترة هو التهديد الاستراتيجي الأكبر الذي أدى إلى فشل الدولة، لأنه كان مركز الفساد الأكبر، وهو الذي قوض سيادة القانون، وهو الذي حرم الأطفال من المدارس والرعاية الصحية السليمة، وهو الذي أعاق التنمية الاقتصادية التي هي سلاح الدفاع الحقيقي عن الدولة وعن الشعب.
لن يعود اليمنيون إلى ديارهم إلا إذا عادت دولتهم إلى مسار الاستقرار والتنمية، ولن تعود إلى ذلك المسار إلا بسيادة القانون واحترام حقوق المواطنة، ولن يتم ذلك إلا بزوال الاستبداد، وذلك يكون بتوزيع السلطة السياسية على المستويات المختلفة، بحيث تتكون توازنات إيجابية تضمن الاستقرار، وتمنع ظهور ذلك الصنف من القادة النرجسيين الذين يغامرون بشعوبهم لتحقيق أمجادهم الذاتية.
نشرته أولاً: مجلة المجلة