تُجار “البن اليمني” ومصدريه سرطان ينهك المزارعين (تحقيق خاص)
يمن مونيتور/ وحدة التحقيقات/ خاص
يتشبث عبدالاله راجح (50 عاماً) بزراعة شجرة البن كموروث يرمز لهوية وثقافة الشعب اليمني رغم قلة العائدات المادية التي يحصل عليها من مزارعه التي ورثها عن جده في أعالي جبال مديرية برع محافظة الحديدة (غرب اليمن)؛ لكنه يقول إنه قد يتخلى عن الزراعة بسبب عديد من المعوقات التي تتسبب في تحويل زراعتهم إلى خسائر.
ويزرع البن في أقاليم مختلفة من البلاد، ويزرع بصورة رئيسية على ارتفاع يتراوح بين 1000 إلى 1700 كيلومتر فوق سطح البحر، في الأودية التي تنحدر من المرتفعات الغربية والوسطى والجنوبية وفي المدرجات الجبلية -خصوصاً في سلسلة الجبال الغربية المطلة على تهامة، حيث تتراوح كثافة المساحة المزروعة بالبن ما بين 900 إلى 1000 شجرة في الهكتار الواحد، ويتراوح إنتاج الهكتار الواحد ما بين 300 إلى 600 كيلو جرام.
وفضلاً عن القيمة الاقتصادية لمحصول البن، ثمة قيمة تاريخية ومعنوية له. فمن خلال محصول البن، سجل اليمن حضوراً متميزاً على المستوى العالمي منذ أوائل القرن السادس الميلادي وحتى منتصف القرن التاسع عشر باعتباره المصدر الأول للبن من خلال ميناء المخا الذي حمل البن اسمه إلى كل أنحاء العالم.
مشكلات تدفع للمغادرة
وتشتهر مديرية برع إلى جانب محميتها الطبيعية بزراعة البن وعدد من المحاصيل كالذرة والشعير والزنجبيل؛ وتمتاز المدرجات الجبلية بخصوبة تربتها ومناخها المعتدل وموقعها الجغرافي المناسب لزراعة كثير من الخضروات والفواكة كالمانجو والموز والبرتقال والجوافة واليمون وغيرها.
يقول راجح لـ”يمن مونيتور” -متحدثا عن الماضي بحسرة- كانت المديرية تنتج آلاف الاطنان من البن يباع بأسعار مناسبة بالنسبة للمزارع منذ قرون، لكن الأمر مختلف حاليا فكثير من الأسر لم تعد تعتمد على الزراعة كمصدر دخل بسبب قلة المحصول وانخفاض سعر البن رغم شهرته وجودته والطلب المتزايد عالميا.
“راجح” ليس وحده الذي يعاني بل مئات الأسر التي تعاني من قِلة المحصول وتسبب التجار بانخفاض أسعار البن، ما دفع كثيرين للمغادرة، بين هؤلاء عبدالسلام قاسم (28 عاماً) الذي غادر مسقط راسه “برع” إلى العاصمة صنعاء تاركا خلفه أشجار البن المعمرة والتي تزيد عن ثلاثة آلاف شجرة بن مثمرة بحثا عن مصدر دخل آخر يعيل به أسرته المكونة من ستة أفراد.
وارجع قاسم -في حديثه لـ”يمن مونيتور”- سبب تركه للأراضي الزراعي إلى عدم توفر الإمكانيات كمشاريع المياه وغياب الدعم الحكومي سواء بالنسبة للمعدات الزراعية والأسمدة التي يحتاجها المزارع وتساعده على إنتاج محصول ذو جودة ونكهة متميز وفقا للمواصفات العالمية أو من خلال ضبط اسعار البن وما يحتاجه المزارع.
صعوبات
يواجه مزارعو البن في اليمن الكثير من التحديدات نتيجة ضبابية الرؤية بالنسبة للحكومة اليمنية منذ ما يزيد عن عقدين وتضاعفت مشاكل المزارعين جراء الحروب التي تشهدها البلاد منذ سيطرة جماعة الحوثي على العاصمة صنعاء مطلع 2015م.
ويرى رئيس مركز الدراسات والإعلام الاقتصادية مصطفى نصر أن غياب الالية التي تحدد الإنتاج والتسويق، نتج عنها العمل بمزاجية سواء من قبل المزارع أو التاجر وصولا إلى المصدر والمستورد.
ويتربص تجار البن ومصدريه بمزارعي ومحصول البن اليمني نتيجة لغياب قوانين تجرم التلاعب بأسعار وجودة البن اليمني في مناطق الحوثيين أو تلك الواقعة تحت سيطرة الحكومة المعترف بها دولياً.
وتكتظ مخازن الجمارك بمئات الأطنان من البن الخارجي (أقل جودة) نتيجة التهريب المستمر بهدف خلطه مع الإنتاج المحلي وتصديره بأسعار باهضه دون مراعاة لسمعة البن اليمني والإضرار الناتجة عنها بالنسبة للاقتصاد الوطني.
وتتفاوت أسعار محصول البن ما بين 2500 ريال يمني (5 دولارات) للكيلو الجرام بالعملة القديمة إلى 3500 ريال (قرابة 7 دولارات) في مناطق زراعته كحراز وريمة وبرع والحيمة ويافع وبني حماد إلا أن أعلى سعر لا يساوي ما يبذله المزارع من جهد ناهيك عن ما تحتاجه المزارع من أسمده ومبيدات.
وقال محمد علي (50 عاماً) إنه كان يبيع المحصول قبل الحرب بحوالي ألفي ريال للكيلو الواحد، ما يقارب (10 دولار) في ذلك الوقت (2013-2014)، وكانت “الأسمدة والمبيدات رخيصة للغاية حيث ارتفعت أربعة إلى خمسة أضعاف”.
وأضاف لـ”يمن مونيتور”: “قبل الحرب كنا بالكاد نوفق بذلك السعر بين احتياجاتنا واحتياجات المزارع، الآن لا يوجد إلا خسائر”.
وتعتمد آلاف الأسر اليمنية على محصول البن لتنمية مدخولاتها، إذ يعمل في هذا المجال قرابة مليون شخص، بدءاً من زراعته وحتى تصديره.
والقهوة اليمنية هي الأفضل والأشهر حول العالم وتعرف باسم “موكا” الميناء اليمني “المخا”، وتبلغ قيمة الرطل منه (أقل من كيلو) في الولايات المتحدة 240 دولاراً أمريكياً. ويُعد الكوب القهوة اليمنية الأفضل عالمياً وتصل قيمته إلى 42 دولارًا أمريكيًا-حسب وكالة بلومبرج الأمريكية.
أذرع متعددة
ومع تزايد حدة الصراع في اليمن وحاجة المواطن الى المساعدات الإنسانية العاجلة من قبل منظمات دولية للحد من تفاقم الوضع الإنساني والصحي والبيئي سارع هوامير تجار البن ومصدريه بإنشاء جمعيات ومؤسسات تحت مسميات عدة للاستفادة من تلك المساعدات.
وبحسب إحصائيات رسمية فيبلغ عدد الجمعيات والمؤسسات المتخصصة في مجال البن ما يقارب 45 جمعية ومؤسسة معظمها في مناطق سيطرة الحوثي (شمالا) فيما لا تزيد عن ٢٠ جمعية ومؤسسة فاعلة في هذا القطاع خلال الأعوام الثمانية الماضية.
ورغم تعدد المؤسسات والجمعيات العاملة في مناطق زراعته البن إلا أن ما تقدمه من مشاريع تنموية كبناء الخزانات والدورات التدريبية وإنتاج مشاتل بدعم من المنظمات العالمية لا تلبي احتياجات المزارع كما يقول سليمان أحمد أحد المزارعين لـ”يمن مونيتور”.
وفي تصريح لمسؤول في الغرفة التجارية في صنعاء تحدث لـ”يمن مونيتور” فإن غالبية تلك الجمعيات تتبع تجار البن ومصدرية فيما يمتلكون أذرع تتحكم بقرارات الغرفة التجارية المختصة في تحديد المقاييس والجودة وغيرها من القوانين التي تحد من سطوة التجار والمصدرين والتلاعب بالإنتاج المحلي واسعاره وجودته.
وقال المزارع أحمد (35 عاماً) لـ”يمن مونيتور”: لا نستطيع البيع إلا لهؤلاء التجار وحدهم، الذين يحددون السعر ويراقبون الجودة ويبخسون المحصول.
يشير أحمد إلى أنه حاول قبل ثلاثة أعوام بيع المحصول في صنعاء “لمحلات البهارات والمتخصصة في بيع البن، وتمكنت من بيع جزء من المحصول بسعر مناسب أفضل من بيعه للتجار، لكن معظمهم يرفض الشراء لأنهم يشترون من التجار ويخشون عدم تزويدهم بالبن مرة أخرى لتجارتهم”.
لفت أحمد إلى أنه “في موسم العام اللاحق تعرض لمقاطعة من التجار الذين يشترون مني عادة، وقالوا إن عليّ بيعه في صنعاء، كانوا في الأصل قد حذروا الذين اشتروا مني العام الذي سبقه من شراء البن مني مرة أخرى، بعد تفاوض ووساطات شروا مني محصول ذلك العام”.
يتفق جميع المزارعين الذين تحدث “يمن مونيتور” لهم أن التجار هم من يحددون قيمة المحصول كل عام بدون مناقشة تكاليف العناية به وزراعته “من أسمدة ومبيدات” والتي بعضها تصل لقيمة خيالية.
ورفض رجل أعمال يقوم بتصدير البن خارج البلاد التحدث لـ”يمن مونيتور” وقال: ليس لديه ما يعلق به. رافضاً اتهامات المزارعين له ب”بخس المحصول”.
عالمية
اشتهر البن اليمني بمذاقه المتميز وجودة ونكهته المفضلة بالنسبة لعشاق القهوة في جميع أنحاء العالم منذ مايزيد عن خمسة قرون تقريبا حسب كتاب ومؤرخين زراعيين.
وللأيادي العاملة في إنتاج البن الفضل في شهرة وجودة القهوة اليمنية وتربعها على عرش المذاق العالمي في المزادات والمحافل الدولية رغم قلة الامكانيات الحديثة الذي ستحسن من جودته وستزيد من صادرات اليمن مقارنة بدول أخرى كالبرازيل واثيوبيا وغيرها.
وتراجع انتاج البن اليمني خلال الأعوام الماضية نتيجة للحروب التي تمربها اليمن واستغلال التجار المحليين لحاجة المزارع وارتفاع الاسعار الاساسية كالأسمدة والمبيدات والمواد الغذائية. فيما تقلصت مساحة زراعته من 34.470 هكتار الى ما يقارب 27 الف هكتار الأمر الذي انعكس سلبا على صادرات اليمن حيث تراجع من 20 ألف طن إلى أقل من 17 ألف طن للعام خلال الأعوام (2022و2021و2020)- حسب إحصائيات رسمية أطلع عليها “يمن مونيتور”.