دوي صوت شاعر لم يمت
يمن مونيتور/ بلال عبد اللطيف
فلا حمد إلا للذي شق سمعنا
ولا يخضع المخلوق إلا لخالقه.
ولارتبة تعلو لذي قلب حاقد
وإن طال ذرعاً واستنارت مشارقه
فقل لحسود الناس لست برابح
فمن يعله الرحمن ما أنت سابقه
ومن يصنع المعروف لاشك فائز
من الله وفي الأخرى حور تعانقه
ومن يعشق الدنيا ويبلى بحبها
فقد خسر الأخرى وضاعت دوائقه
فما هي إلا لحظة بعد لحظة
إذا عقرب الساعة تم دقائقه
إذا المرء لايملك ضميراً موقراً
تخبط كالعشوى وطالت طرائفه
وعاش بليل مدلهم حياتهُ
يردد أفكار وينسى حقائقه.
هكذا كانت قصائد القاضي عبد الباري الصبيحي من مواليد تربة أبو الأسرار بمديرية المضاربة ورأس العارة بمحافظة لحج عام 1344هجري/ 1925 ميلادي، والذي تربى في اليتم بعدما توفي والده وهو في الشهرين من عمره،
ولم يكن ذلك اليتم توقفا وضياعا له بل كان مكافحا تصدى لكل ظروف الحياة القاسية بعزيمة وإصرار رغم الفقر المدقع الذي كان يعيشه.
لقد تبنت تربيته والدته تربية حسنة ونشاء نشأة حسنه، وعندما بلغ السن التعليمي التحق برباط أبي الأسرار في مسقط رأسه بلحج والذي قصده الناس من مختلف المناطق اليمنية وذلك لعمقه التاريخي وبوجود مشايخ كبار سواء من شمال الوطن أو جنوبه.
وعلى الرغم من وضع أسرته المادي التي كانت تكافح لتحصل على لقمة عيش فقد استنفدت والدته كل ما تملك من أجل إلحاقه في رباطات التدريس لينال العلم فتعلم دروس في القرآن والكتابة والحساب والفقه والنحو والسيرة والفرائض على يد مشايخ أجلاء أمثال أحمد عبد الله الجليل الزبيدي الذي كانت له زيارات بين فترة وأخرى لمناطق تربة أبو الأسرار بلحج التي كانت متسمة بنشر العلم والتعلم بين مناطق الصبيحة.
وتعميقا وتطويرا لنفسه أنتقل إلى مناطق موزع لواء تعز ومكث عاما كاملا وتلقى دروسا في العلم على يد الشيخ الفتيني ناصر أحمد الموزعي وأخاه وعاد إلى قريته ليكون مداركه بتأهيل ذاتي.
كان رزين العقل ذو فهم عميق بالرغم من صغر سنه فقد حظي بشرف تعيينه قاضيا في محكمة الشط الجزائية عاصمة مديريته وهو في السن العشرين ثم نقل إلى العارة ومنها إلى كرش بلحج ليعود بعد ذلك إلى الشط.
كانت له زيارات عديدة لمحافظات ومناطق يمنيه منها إلى صنعاء، كانت هذه الزيارة بعد قيام ثورة 26سبتمبر 1962م.
وفي ختام زيارته مر بمصنع الغزل والنسيج برفقة صديقة عبده محمد الظرافي وعندما شاهد العمال فيه يعلمون راح في دهشة وقال قصيدة مشهورة في منتصف 1962م في نفس التوقيت كانت لها تأثير كبير في نفوس الحاضرين والناس نظرا لروعتها، حيث أقترح الإعلامي المتألق الأستاذ القدير يحيى عبد الرقيب الجبيحي على إدارة مؤسسة الغزل والنسيج قبل تصفيتها ممثلة برئيس مجلس الإدارة الأخ محمد حاجب أن تكتب هذه القصيدة بخط جميل وتكبر وتطور بحيث تصير كلوحة ويتم وضعها على أحد اتصالات التابعة للمؤسسة واهتمت الإدارة بالموضوع وعملت بالاقتراح.
جاء فيها -:
بكيت ولم أبكي فراقا لموطني
ولارحلة الخل القريب إلى القبر
ولكنها سالت بدمع كوابلٍ
سقت جنة خضراء مبروكة القطرِ
بها الحور يرقصن برقص مطابق
لنغمة الآلات من طلسم السحر
خرجن من السحن الرهيب إلى العلا
سبقن بنات الغرب من أول الدهر
ايا مصنع الغزل النسيج تحيةً
لتلك الأيادي العاملات من الصغرِ
ايآ مصنع الغزل وداعاً مكللاً
بتاج من الآهات في ليلة القدر.
قصيدة طويله جدا نالت إعجاب العاملين في المصنع.
عاد إلى جنوب الوطن لكنه واجه خلافات مع السلاطين والإدارة البريطانية حيث أحتجز في سجن لحج لكنه هرب منه إلى شمال الوطن في 10من ذي الحجة 1382هجري 4 مايو 1963ميلادي بواسطة بعد الأصدقاء من الصبيحة.
لقد كان القاضي والمناضل والأديب والشاعر عبد الباري الصبيحي من الشخصيات الوطنية المعروفة في منطقة الصبيحة وخارج الصبيحة.
كان له رفاق درب المناضلين الوطنيين المعروفين وهم محمد الصماتي وبخيت مليط وعلي بن علي شكري وعبد الجبار السروري والشيخ علي عبد الله المشولي وعبد الرحمن الظرافي.
عندما كان في محافظة تعز تعرف على المناضل الكبير مفجر الثورة الأكتوبرية في جنوب الوطن راجح بن غالب بن لبروزه حيث رثاه بعد إستشهادة بقصيدة جاء فيها:-
قف معي وقفة إجلال وخاشع
لاذليل ولاللدهر راكع
قف معي حيي لبوزة إنه تاج ردفان وأستاذ المعامع
وتذكر يوم دوى صوته
معلنا الحق في صوت المدافع.
عرف برجل الإصلاح الاجتماعي والعمل التعاوني ذاع صيته بذلك في أوساط الناس فعمل في إصلاح ذات البين ولم الشعث وقد عهد الوسط الاجتماعي برزانة العقل وحصافة الرأي وكان يسعى إلى جمع التبرعات لأعمال الخير ومنها تأسيس تعاوينة الشط الاستهلاكية وتم إنتخابة كأول مدير لها إلا أنه قدم استقالته نتيجة لمضايقات حزبية.
كان من الثوار المناضلين حيث أنظم كعضو قيادي لقبائل الصبيحة بالتحديد الصبيحة الغربية حيث كان يرسل السلاح والمنشورات إلى الثوار ليقوموا بتوزيعها تحت إشراف مشايخ المنطقة
وفي المناسبات والأعياد مثل سبتمبر وأكتوبر ونوفمبر كان يلقي قصائد حماسية في الاحتفالات التي تقام في وازعية تعز الذي كان منفيا فيها آنذاك.
وله قصيدة مشهورة حماسية سميت عزم النفوس التي قالها وهو منفي إلي تعز بمناسبة يوم الاستقلال ٣٠من نوفمبر المجيد قال فيها:-
لجأنا إلى ماوراء الحدود
لنمرق كالسهم عن قوسها
مردنا الشياطين من قمقم
وطرنا نحلق من حولها
كسرنا القيود بعزم قوي
ولان الحديد لمن ذابها
نحب القتال ونهوى الوغى
فلم نخشى حرباً ولا اهوالها”
وفي ختام قصيدتة يقول:
تركنا الطواري نعاجا تدور
تبيت الذئاب رعاة لها
فنحن الصواريخ لانستهيب
رضعنا الرزايا ونحن لها..
بعد استقلال الوطن من الاستعمار البريطاني في 28شعبان 1387هجري/ 30نوفمبر 1967 ميلادي عاد إلى أرض الوطن وتعرض للاعتقال من قبل الجبهة القومية بتهمة انتمائه لجبهة التحرير لكنه بعد وساطات ووجاهات وطنية لدى الرئيس قحطان الشعبي تم إطلاق صراحة وعقب تول سالم ربيع مقاليد السلطة أعتقل مرة أخرى وفي أثناء معتقله زاره اتحاد الأدباء والكتاب برئاسة الشاعر المعروف أحمد سيف ثابت وكتب بعضا من قصائده وعرضت عليه فكرة الانضمام إلى الاتحاد فاعتذر عن المشاركة مفضلا الاكتفاء بنفسه وبما بذل من تضحيات في سبيل وطنه وما قدمه لمواطنيه من خدمات.
قال عنه الإعلامي نجيب البابلي عاش المناضل والشاعر القاضي عبد الباري الصبيحي جوعا ومات جوع…
وفي 14جماد أول 1426هجري/ 20يونيو2005 أنتقل إلى الرفيق الأعلى مخلفا ورائه ثروة أدبية بديعة وآثار شعرية وموروث فكري نادر وتاريخا خالدا من الأدوار النضالية الشجاعة والمواقف الوطنية المشرفة وسجلا ناصعا من الأعمال الجلية والمصاعد الاجتماعية والخدمات النبيلة لم تمت.
وله ديوان شعري كبير ومتنوع معظمه باللغة العربية الفصحى لكنه لم يجمع ويطبع ويحفظ في مكاتب ليقراه الأجيال جيل بعد جيل ويتعلمون منه طريقة الكفاح والنضال والحرية والحكمة.