كتابات خاصة

“العالية”

إيمان علي

لست من متابعي المسلسلات، ناهيك إن كانت يمنية، ولست مغرمة بالبقاء أمام شاشات التلفزة.. لكنني اليوم، بالصدفة، شاهدت حلقة من مسلسل “العالية”.

أوجعتني أحداث الحلقة إلى حد البكاء، ذكرتني بأحداث كثيرة مشابهة، وحقب وأزمنة طويلة بنفس السيناريو، أيضاً، عاشها اليمنيون تحت وطأة حكم الأئمة.

تذكرت قصة الفقيه سعيد بن ياسين الدنوي، من قرية “الدنوة”، التابعة لمديرية حبيش، الذي قاوم ظلم الإمام الهادي محمد بن المتوكل، سنة ١٢٥٧هجرية، بعد أن استجار الناس بالفقيه سعيد من ظلم ذلك الإمام وجيشه الذي أباد وقتل وشرد وجوَّع اليمنيين في محافظة إب، وكيف أن ذلك الإمام صلب الفقيه سعيد، وشوَّه سمعته حين ظفر به وأسماه “سعيد اليهودي”، ولا يزال الناس يتناقلون اسمه للمسبَّة إلى يومنا هذا، دون أن يعرفوا قصة ذلك الثائر التقي الورع.

تذكرت قصة “الدودحية”، وكيف أن الأئمة شوَّهوا ونكَّلوا بتلك الفتاة ليذلوا أهلها ويكسروهم بها. تذكرت أيضاً يحيي بن حمزة، أخو السفاح عبدالله بن حمزة، الذي سبى سبعمائة امرأة من نساء صنعاء وقام بتوزيعهن على جنوده في قاع طيسان، سنة 612هجرية، لإذلال معارضيه بهتك شرفهم، و.. و.. إلخ.

في الحلقة العشرين من مسلسل “العالية” تجسدت الصورة الموجعة لعصورٍ حَكَمَنا فيها الأئمة بكل الأساليب اللا إنسانية، فقد كانوا يعمدون لإركاع كل من يرون فيه الأنفة والاعتزاز بالنفس، أو يجدون صعوبة في إركاعه واستسلامه، ويفعلون ذلك بكل الأساليب القذرة.

ظبية، بنت الشيخ فاضل في مسلسل “العالية”، التي رماها الحاكم بالفاحشة وجنَّد ضعاف النفوس من أبناء قبيلتها لاتهامها زوراً بالفاحشة، ليكسر شوكة والدها الشيخ الحر، سبقتها ألف ظبية على أرض الواقع.. وضعاف النفوس من الخونة وعديمي الشرف الذين سهلوا للحاكم مهمته، هم أولئك الذين وجدناهم على مر تاريخ الحكم الإمامي البائد، وبهم أركع أولئك الأئمةُ شعبَ اليمن على مدى توليهم لحكمها.

بغض النظر عن مستوى الأداء الدرامي، وبعض الأخطاء التصويرية في المسلسل، إلا أنه جسَّد حكم عصر طويل لأولئك الأئمة، ومعاناة أطول لشعب عاش طوال تلك العصور بين خيارين كلاهما مُر: العيش باستسلام وخضوع وخنوع، مع ما يصاحب ذلك الاستسلام من تشريد وتجويع وتخويف وإذلال، أو الرفض والثورة أمام ما سيقابلها من قتل وتشريد وتجويع وتشويه للحقائق والسمعة أيضاً.

عاش أبناء المشايخ في قصور الأئمة كرهائن لضمان ولاء آبائهم، وانتهى بهم الأمر كخدم في تلك القصور، دون أن يرف لأولئك الأئمة جفن، وأبادوا قبائل يمنية لمجرد أنهم شعروا ببعض أوكسجين الحرية يفيض من رئات بعض أبنائها.

تذكرت المطهر بن شرف الدين ومجزرة (يوم الربوع) في البيضاء، حين أمر سيافيه بقطع الرؤوس ورميها أمامه وهو راكب فرسه، حتى ساوت رأس حصانه، ثم أمر ألفاً من الرجال بحمل ألف رأس مقطوع والسير بها مشياً على الأقدام إلى صنعاء ثم إلى صعدة، لإرهاب القبائل التي يمرون عليها، وليعرفوا عاقبة الخروج على حكم السماء المتمثل بحكم الأئمة.

أرأيتم ماذا يمكن أن يصنعه مشهد من مسلسل تاريخي؟!

كنت قد بدأت في كتابة مسلسل تاريخي، يحكي عن عصر الدولة الرسولية في اليمن، لكن.. لأنني كنت أرى مستوى الدراما اليمنية لا يرتقي إلى تجسيد تلك الفترة الفارقة من تاريخ اليمن، من خلال قراءاتي البحثية عن الدولة الرسولية، تراجعت خوفاً من الإحساس بالخيبة.

تطور الدراما اليمنية سيحرك شجون كُتَّاب السيناريو وأقلامهم، وفي وجود ممثلين جيدين لن يبحث الكُتاب عن قصص لكتابتها، وليسوا بحاجة إلى الخيال، فتاريخ اليمن مليء بالقصص والحكايات التي تجعل شاشات التلفزة تسيل دماً ودموعاً وحسرة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى