كثيرا ما نقرأ في تاريخ فكرنا الإسلامي أن باب الاجتهاد قد أغلق في الفقه نتيجة عدم وجود علماء مجتهدين في ذلك الزمن، أو نتيجة تطفل الاجتهاد ممن لا يحق له ذلك لعدم استيفائه للشروط، فهل فعلا تم إغلاق باب الاجتهاد لتلك الأسباب. كثيرا ما نقرأ في تاريخ فكرنا الإسلامي أن باب الاجتهاد قد أغلق في الفقه نتيجة عدم وجود علماء مجتهدين في ذلك الزمن، أو نتيجة تطفل الاجتهاد ممن لا يحق له ذلك لعدم استيفائه للشروط، فهل فعلا تم إغلاق باب الاجتهاد لتلك الأسباب؟ وهل يستطيع أحد أن يغلقه بفتوى أو قرار سياسي؟ وهل فعلا خلت القرون من عقلية لا تستطيع الاجتهاد والاستنباط؟
كانت هذه الأسئلة قد شغلتني حيناً من الزمن حتى وجدت ما أظنه مفتاح الإجابة الأولى. إجابة كانت صادمة لي كمتخصص في علم أصول الفقه، ذلك أن ذلك العلم هو بمثابة أصول للفهم والاستدلال، وهذا ما كان فعلا في القرون الأولى قبل أن يتحول ذلك العلم إلى قيد للمخيلة تحاصر العقل من أي إعمال واجتهاد.
بعد قراءة طويلة في تاريخ تطور علم أصول الفقه، وجدت أنه مر بمراحل أدت في نهاية المطاف إلى توقف الاجتهاد في الفقه وهذا يعني توقف الإبداع في الفكر بشكل عام، ويعني أيضا توقف العقل الإسلامي بشكل أعم!
ربما يجد القارئ هذا الكلام غريبا!! فكيف تكون الأصول التي يفترض بها أن تفتح باب الإبداع والاجتهاد قد أدت إلى توقفه؟! إليكم حكاية تطور الأصول..
أصول الفقه هو العلم الذي اعتمد عليه الفقهاء في استنباطهم واستدلالهم للأحكام الشرعية وسواء كتبوا تلك الأصول كالشافعي وابن حزم من المتأخرين، أو كانت في أذهانهم وعملوا بها ولم يكتبوها كأبي حنيفة ومالك من المتقدمين، ولا أحد ينكر أنهم جميعا انطلقوا من أصول معينة في اجتهادهم.
من يقرأ تاريخ الفقه الإسلامي يجد أنه كلما اقتربنا من عهد النبي عليه السلام كلما كان الاجتهاد مفتوحا وميسرا وبسيطا وكانت الآراء والمذاهب متعددة، وكلما ابتعدنا عن زمن النبي عليه السلام قرنا بعد قرن ضاق الاجتهاد وعسر وقل، حتى جاءت فترة أعلنوا فيها أن لا وجود لفقهاء مجتهدين ولا يحق لأحد الاجتهاد!! وليس ذلك برأيي إلا نتيجة طبيعة للأطوار التي مر بها علم أصول الفقه، والتي في ظاهرها الضبط والترتيب والإتقان وفي باطنها التقييد والتعسير والإغلاق. فكيف أغلق علم أصول الفقه الاجتهاد في الفقه ومن بعده الفكر؟
يقسم علماء الأصول أدلة الأحكام باعتبار مورد الدليل إلى قسمين: أصول نقلية وأصول عقلية. والأصول النقلية هي تلك الأصول التي تعتمد على النص سواء كان النص قرآنا أو حديثا أو قول صحابي أو إجماع أو شرع من قبلنا. والأصول العقلية هي تلك تستخدم العقل للدوران حول النص أو البحث خارج النص إن لم تجد ضالتها في النص، وهذه الأصول هي القياس والاستحسان والاستصلاح والاستصحاب.
هذه تقريبا هي كل الأصول التي اعتمدت عليها المذاهب المختلفة وإن اختلفت في بعضها أو في رؤيتها لكل أصل. فكيف كان تطور هذه الأصول؟ ثم ألا يفترض أن تطورها يوازيه اجتهاد أكثر؟ لكن ما حدث هو العكس، كلما تطورت اصول الفقه قل الاجتهاد!!
لو تأملنا سريعا في تطور تلك الأصول سنجد أنها كانت متخففة جدا في بدايتها من الأصول النقلية، وكلما مر وقت اتسعت الأصول النقيلة بشكل أكبر، بينما كانت الأصول العقلية متسعة وتشغل المساحة الأكبر وكلما مر وقت ضيقت حتى تلاشت.
ففي الأصول النقلية كان الجيل الأول يعتمد على النص القرآني فقط وما رآه من عمل النبي في الصلاة والحج، ثم جاء الجيل الذي يليه فبدأ يبحث عن روايات آحاد غير مشهورة ليرى قول النبي في هذه المسألة أو تلك، مع علمه بظنية ثبوت تلك الأقوال إلى النبي، ثم جاء الجيل الذي يليه فانتشرت الروايات بشكل أكبر وهكذا جيلا بعد جيل حتى صار ما رواه أحمد ت ٢٤١ه أضعاف ما رواه الشافعي ت205ه وما رواه الشافعي أضعاف ما رواه مالك ت179ه وما رواه مالك أضعاف ما رواه أبو حنيفة ت150ه، وهكذا نجد أن أكثرهم رواية كان أبعد عهدا عن النبي وأقلهم رواية كان أقربهم عهدا للنبي، وهكذا اتسعت الروايات بشكل كبير حتى ملأت حيزا كبيرا من الذاكرة.
أما الإجماع فمن يتأمل الكتب التي كتبت فيها سيجد أنه كلما ابتعد الزمان عن عهد النبي تكاثرت أكثر فمن عشرات المسائل المجمع عليها إلى مئات إلى آلاف عند المغالين في الإجماع. وبعد أن كان قول الصحابي غير حجة إجماعا عند الصحابة رأينا الأجيال التي تلتهم تختلف في ذلك ويرى بعضهم أن قول الصحابة حجة وهذا يعني الاعتماد على النص في مقابل العقل. وكذا أضافوا أصل شرع من قبلنا الذي يعتمد على النص الجاهز بعد أن كان غير معروف عند الجيل الأول وكذلك العرف وإن كان العرف أكثر هذه الأصول مرونة لأنه متغير لا ثابت، ويمكن اعتباره مع الأصول العقلية كون يتغير بحسب الزمان والمكان.
تلك كانت حكاية الأصول النقلية التي أخذت في التوسع، حتى اعتمد الفقيه المتأخر على من قبله في كل سؤال وحادثة، وتوقف عن الاجتهاد اكتفاء بما قاله من قبله بعد أن صار لذلك حجية وإلزام.
أما حكاية الأصول العقلية فكانت على العكس من الأصول النقلية، فبعد أن كان العقل يعتمد على الأصول العقلية الموجودة في العقل البشري من استحسان ما رآه العقل حسنا ومن قياس المتشابهات ومن الأخذ بما يرى فيه العقل مصلحة ودرء ما يرى فيه مفسدة له، نجد أن تلك الأصول قد مرت بمراحل تدرجت من الاتساع والإعمال إلى التضييق والإهمال والإلغاء.
فبينما نجد أبا حنيفة يأخذ بأصل الاستحسان يأتي الشافعي بعده ويلغي هذا الأصل بحجة أن “من استحسن فقد شرع”، وبينما نجد أبا حنيفة يوسع القياس على الأصول العامة للعقل نجد أن الشافعي يضيقه إلى قياس على جزئية من جزئيات النصوص ثم يأتي ابن حزم فيلغيه تماما بنفس الحجة التي ألغى بها الشافعي الاستحسان. أما الاستصلاح أي الأخذ بالمصلحة فقد أخذ به أبو حنيفة ومالك في كثير من آرائهم ثم قلل من أهميته الشافعي فضاق ثم جاء الغزلي فجعل له من الشروط ما جعله يضيق في دائرة صغيرة جدا. أما أصل الاستصحاب -وهو أن نستصحب الأصل فيما لا نص فيه والأصل في الشيء الإباحة- فهو تقريبا الأصل الوحيد الذي لم يرفضه الجميع ولكنه في المقابل لم يأخذ حظه جيدا في ظل تكاثر النصوص التي غطت حيزا كبيرا من المسائل والأحكام.
هكذا اتسعت الأدلة النقلية فاتسعت الذاكرة وهكذا ضاقت الأدلة العقلية فضاقت المخيلة، ثم جاءت عصور التقليد لتأخذ بفتوى كل من قبلها بلا جرأة على تجاوز رأيهم، فكان اتساع الذاكرة كافيا بإيقاف المخيلة، وهكذا توقف الاجتهاد والإبداع.
فتوقف الاجتهاد لم يكن بفتوى دينية ولا قرار سياسي وإنما كان نتيجة طبيعة لما ذكرته سابقا من الأطوار التي مر بها أصول الفقه (أصول الفهم).
وإذا ما أردنا اليوم إعادة للعقل للاجتهاد والإبداع فعلينا باختصار أن نوسع المخيلة التي ضاقت أولا، ونضيق الذاكرة التي اتسعت ثانيا، وتضييق الذاكرة يكون بالعودة إلى النص المتفق عليه من الوحي، فالوحي سيجيب لنا عن أسئلة الغيب التي لا يستطيع العقل الإجابة عليها. كما أنه سيحافظ على ثبات المبادئ العليا السامية من أن يتنكر لها العقل البشري إن حاول الإنسان أن يتوحش على أخيه الإنسان يوما.
فإذا اكتفينا بنص القرآن وما تواتر من السنن العملية فإن العقل سينطلق لإحياء المخيلة لتسد ما يحتاجه الإنسان في تطوره مستفيدا من الحكمة التي أنتجها العقل البشري في كل مكان، وسواء كانت الحكمة التي سيأخذ بها حكمة كشفتها التجربة الإنسانية، أم كانت آلية من آليات اكتشاف الحكمة التي اكتشفها العقل الإنساني.
وبهذا يستطيع المسلم اليوم أن ينطلق بلا قيود ليفكر ويبدع، فيعمل عقله في فهم النص القرآني، ويعمل عقله في استجلاب الحكمة فهي ضالته أينما وجدها.. “ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا”.