وردتني مكالمة في ساعة غادرة يوم 20 فبراير، أجبته متثاقلاً.. نعم! ليهمس المتصل: “صديقك استشهد”. كانت همساً محملاً بمشاعر الألم والوجع والقهر، وكافيا لتفجير بركان مشاعر متضاربة تملكتني للحظات تزيد مساحتها الزمنية عن عشرات السنين.
لحظتها، وبدون إشعار مسبق، بدأت الذكريات القديمة تتدفق بسرعة فائقة لتعبر بي خط الزمن، إلى أيام الصبا، وشجار طفولي حدث في الصف الثالث ومعركة لم تنتهِ مع زملاء من القرية المجاورة.
إلى طابور المدرسة، ومسرحية العرس، ومزاح أبو الريش، ونكات محمد حيدر الغير مضحكة، وابتسامات محمود الساخرة، ومذاكرة أكاديمية “بين الذرح” واختبارات المفاضلة بكلية الهندسة.. وإلى صرخات شيرين “جرح ثاني” في ذات مَقْيل، وإلى ما لا نهاية من ذكريات عشرات السنين التي تقاسمناها ووثقناها.
احتشدت جميعاً وتزاحمت في لحظة واحدة، لحظة سماعي نبأ استشهاد صديق الطفولة وزميل المدرسة “ياسر سراج”.
آآه يا صديقي! وكأن يوم رحيلك (20 فبراير 2019) البارحة، الحزن والفقد والشوق، وكأنه اليوم، ومواقفك المضحكة تفاجئني بين الحين والآخر، تذكرني كي لا أنسى أنه في حين كان الكثير من أقرانك وأنا منهم، يفضلون الجلوس في مناسبات خاصة، كنت أنت “يا ياسر” النموذج. أردت أن تكون ذكرى زواجك في العشرين من فبراير 2017، سعياً نحو الانعتاق، وعملا وحركة، وفي ذكرى زفافك الثانية ضربت موعداً مع أمنيتك الكبيرة “الشهادة” وزفاف ثانٍ في الجنة، وشفاعة لكل الأحبة.
آه يا صديقي.. ها هي ذكرى رحيلك، تحل للمرة الثانية لتمهد لذكرى رحيل قائدك، “عبدالغني شعلان”، الذي فضلت اللحاق به نهاية عام 2015م، ما زلت أتذكرك يومها ونحن في جلسة مقيل لا تنسى، وعيناك تبرقان وأنت تذكرني بذاك الشاب الصاعد نجمه في قريتنا؛ إذ كان التحاقه بكلية الطيران بداية الألفية أمرا استثنائيا في المنطقة.
أخبرتني يومها يا صديقي ما كنت قد نسيته، من حديث الثنائي “عبدالغني” وهما يرويان بعد فترة وجيزة من غيابهما عن القرية، بدايات أيام الكلية الحاسمة، وعن العسكرية والانضباط والوطن والتضحية، والتحمل الذي استشهدا عليه بآثار الجروح في بطن أقدامهما.
حينها قلتَ فجأة: “فرصتي حانت للالتحاق بالحلم وقد عزمت السفر إلي مأرب” لمطاردة صورة رسمها “أبو محمد” في وجدان طفلين في الصف السابع تقريبا، فعشعشت وتوطنت وكبرت في قلبك، بينما كنت أنا قد دفنتها في لحظتها، ورغم محاولتي ثنيك عن ما عزمت عليه، لم تستجب وسبقتنا نحو الغاية.
أه يا صديقي! اليوم أنت وقائدك في جوار الرحمن، وحولكم العشرات من القادة برفقة جنودهم الأوفياء من أبطال القوات المسلحة والأمن.
ارجوك يا صديقي أنت وقائدك وكل من حولكم، سامحونا لأننا نحسدكم فعلا، فقد غادرتم هذا العالم رافعي الهامات، مقبلين غير مدبرين. تركتم كل شيء بما في ذلك الأهل والأحبة، لتلبوا نداء الحق والكرامة والحرية.
لقد رحلت يا صديق ورحل في إثرك قائدك وأصدقاء لكم لا أعرفهم، رحلتم في سبيل تلك الأهداف النبيلة “حرية، جمهورية، عدالة مساواة، دولة مدنية”، فيما الحرب التي قيدتم بماء الذهب في سجلها لا زالت دائرة ومستمرة للعام الثامن، وقد أضحت اليوم أكثر تعقيدا وبشاعة؛ إذ غدت المعارك متعددة، اقتصادية وسياسية وإنسانية، إضافة إلى مواجهات ميدانية غير متكافئة.
للأسف يا صديقي، دعني أخبرك أن الوضع اليوم سيء للغاية. تكالب علينا الجميع، والجماعة تتاجر بجوعنا على طاولات السفراء والمبعوثين، والعدو القديم الجديد ينتصر علينا اليوم، ليس بقوته وشجاعته الزائفة ومسيرة الخراب والدمار. ينتصر يا صديقي بفضل بعض قادتنا ممن يتصدرون الموقف كقادة وطنيين وزعماء شرعيين، ونحاول تصديقهم وهم يحاولون الظهور متوحدين، وكل منهم يغني على ليلاه، ويخوض معركته الخاصة أو ينفذ مشروع حزب أو جماعة ما، مرتبط -في الأغلب- بحسابات دولة ثانية أو ثالثة من دول المنطقة ورعاتها الدوليين.
ومن المضحك المبكي أن كل المتقاتلين والمتصارعين بدماء شعبنا، يزعمون وداعميهم عربا كانوا أو فرسا بأنهم يناضلون من أجل إنقاذ الشعب اليمني، فيما يموت المئات من أبناء الشعب يومياً، من الجوع أو التعذيب أو المرض. أو برصاصات قناصة أو من مسدس كاتم للصوت، أو عبر طائرة مسيرة يعقبها باليستي مجنح، يموتون بالألغام الأرضية المزروعة في الطريق والمزرعة، يقتلون بعبوة ناسفة مزروعة أسفل سيارة مركونة جوار منزل ما.
يموت الشعب اليوم وخاصة أطفاله جيل المستقبل حتى بالأدوية وأمراض عادت للواجهة ببركة “سيد” مزعوم، يصدقه أغبياء ومغفلون بعضهم من حملة الشهادات الأكاديمية والألقاب الدينية والقبلية، ويحاولون -بسماجة- تمرير خزعبلات سيدهم المفضوحة والمنافية للعقل والجنون معاً.
لا أطيل عليك يا صديقي ومن يقرأ -الآن- حروفي المبعثرة، فالحال لا يوجزه مقال، والذكرى مناسبة؛ لا للنواح ورثاء الحقيقة والتعذر ببعض المتاجرين بالدماء، بل فرصة للدعاء لك ولقائدك وكل الشهداء، مع استشعار بعض المسؤولية وتحمل جزء من الواجب، ومحاولة المضي على درب الحرية والكرامة والجمهورية والدولة المدنية المنشودة.
هنيئاً لكم الشهادة، والخزي والعار لكل من يعيق تحرير البلاد، وإيقاف رحى الحرب، وكل من يؤخر حسم المعركة وتحقيق السلام الناجز، ويشارك -ولو بحسن ظن- في صنع أحزان ومآتم لمئات الأسر في شمال الوطن وجنوبه.
أريد أن أقول لك قولاً أخيراً يا صديقي: رغم كل البلاء، ثق وليثق جميع الشهداء الأخيار أن ما بدأتموه سينجز، وأن هزيمة الميليشيا آتية لا محالة وإن تأخرت، ثق يا صديقي أن الحق وأهله لن يهزموا دام وأن الرجال من أمثالكم ما زالوا في خنادقهم، وبنادقهم موجهة نحو الميليشيا.