كتابات خاصة

بيننا.. وبلا أوسمة

عائشة الصلاحي

(أبي ليس بشيطان، لكن يسكنه ألف شيطان رجيم لذا علي أصمد…) فكرة لطالما واسى بها نفسه المتعبة من طغيان والده عليه، فمنذ وعى على الدنيا وهو تحت قهر وترويع والده، ومع انه قد صار شاباً يافعاً إلا أن الخوف مازال يتملكه كلما استدعاه أو قابله. (أبي ليس بشيطان، لكن يسكنه ألف شيطان رجيم لذا علي أصمد…) فكرة لطالما واسى بها نفسه المتعبة من طغيان والده عليه، فمنذ وعى على الدنيا وهو تحت قهر وترويع والده، ومع انه قد صار شاباً يافعاً إلا أن الخوف مازال يتملكه كلما استدعاه أو قابله؛ صحيح لقد تغيرت أسباب مخاوفه، لكنه مازال نفس رعب طفل صغير لم يشعر بالأمان يوماً، ولو لمرة واحدة.
افلتت من بين شفتيه تنهيدة مثقلة فبادره صديقه الذي كان يقود السيارة عائداً به للبيت:
– وكّلها لله يا طه.. ستمر كما مضت السابقات.
غمغم طه بحزن:
– يا رب.. لكني أشعر بالعجز تجاه إخوتي وامي..
أجاب أمجد بحماسة:
-إنك تبذل جهداً خرافياً لحمايتهم فلا تقل ذلك..
غمغم بانقباض:
-مهما كان جهدي كبيراً يظل غير كافياً.
ثم استطرد: سامحني انتزعتك من جلسة الشباب والمذاكرة..
لوح أمجد بيده بشكل مسرحي قائلا:
– لا تهتم.. عندما يتم استدعائك فلابد أن تصل بأسرع ما يمكن ولن يحقق ذلك غيري..
ابتسم طه ممتناً، وحين غادر السيارة أوصاه أن يدعو له.  
ما أن دخل للبيت حتى همس له اخوه الأصغر برعب:
 -أبي متحلف بك..
تنهد طه وابتسم له حتى يهدئ من روعه، بينما تنفس بعمق محاولاً استجماع جأشه وتمتم:
(ربي اجعل نقمته علينا برداً وسلاماً كما جعلت النار بردا وسلاما على إبراهيم).
أسرع طه للداخل ترشده صيحات أبيه وشتمه المقذع لمكان البلاء المنشود.
دخل الغرفة وألقى السلام.. كانت امه في زاوية الغرفة تقف في رعب، فهو لا يرحم ابنها ابداً.. بل هو لا يرحم أحد.
راحت تنظر له بخوف من بين دموعها، فهز رأسه مطمئنا لها.. ولم يرد على سيل السفاهة والسباب الذي راح أبوه يصبه عليه. انتظر انتهاءه ثم قال بصوت مكسور:
-يا أبي، كنت والله اذاكر مع أصحابي لامتحان الغد.
-أنا قلت لا تأخير لهذه الساعة.. أجاب الأب بهدير غاضب.
-آسف.. بس كان لابد نكمل أبواب إضافية.. ثم..
تردد في أن يكمل فهو يعرف أنه سيضربها.. دوماً هو يضربها على شيء.. على الطبخ.. على المال.. على الأولاد.. حتى لأجل الفراش.
إنه يعرف ذلك جيداً منذ صغره، لذا صمت ولم يكمل أنه قد استأذن امه قبل خروجه واتصل يطمنها.. لم يرد ادخالها بالأمر.. واستطرد:
– ثم أنا قد وضعت لك رقم صاحبي لو أردتني أن أعود.
عاد الأب للشتم وهو يزمجر أن هذه آخرتها.. أن يتصل يبحث عنه ويطلبه يعود.
كان طه يحاول كسر نظراته حتى لا يرى والده في عينيه ما قد يزيد بركان غضبه.
لكنه أخيراً رفع بصره ليواجهه قائلاً بتجلد:
– يا أبتي أنا آسف سامحني بس أنا كنت اذاكر لا غير..
– كاذب.
– اتصل بأصحابي اسألهم.
– كلهم كذابين مثلك.
– افحص دفاتري وكتبي، فأنا لا أكذب.
– أنا لن أرى شيء.. لما أقول شيء لابد يتنفذ لكن كله من هذي الـ…… التي ما تقدر تربي.
وبجنون سادي أخذ باكورته الغليظة واتجه بها ليضرب الام كالمعتاد.
كان طه جاهزاً وبلا هنيه تردد أسرع إلى أمه وأحاطها بجسده بكل قوة فوقعت الضربة عليه.
جن الزوج (السيد) فانهال بضرب وحشي على ابنه ليتنحى، لكنه ازداد ضما لها على قدر كل الألم والقهر المتصاعدان داخله.
كانت هي تحاول الافلات منه وتترجاه أن يخرج ويدعها.. لكنه همس لها:
– ارجوك لا تدعيه يضربك ﻷجل خاطري…أنا لا اطيق ذلك يا غالية.. لا اطيق
 الأب، اعتبر ذلك انقلاب على ملكيته المطلقة لهذه المرأة، ولم يتوقف عن السب والشتم والاهانات والضربات بكل قوته على هذا الجسد الذي يضمها بعزم لا يهتز.
ام طه توقفت عن محاولة الافلات وانهارت تبكي بحرقة في صدر صغيرها.
طه كان يعرف جيداً أن أباه يستمتع بالبكاء والتأوه، لذا كتم كل صرخاته داخله.. لقد أراد أن يحرمه لذته السادية المريضة.
راحت الدماء تسيل من جراح طه الذي لا يتحرك.. لا يتأوه.. لا يدافع عن نفسه.. كان يتنفس بصعوبة حتى لا تفلت منه نبرة وجع أو غضب.
دقائق مرت كسنين عليه.. تعب بعدها الأب من كثرة الضرب وتشظت الباكورة.. بل كادت تتكسر.
استمرت الام تستعطفه وتناشده أن يكف عما يفعل.. توسلت له أن يرحمهم..
كان هو قد تعب وغضبه قد وصل لدرجة عجز فيها أن يفعل أكثر مما فعل، فرمى ما تبقى من الباكورة وهو يسب ويلعن بفحش.. وغادر الغرفة في لحظة لطف رباني.
لم تصدق ام طه مغادرته.. كررت هتافها لطه أن يفلتها.
تراخت يداه عنها، ومع أنه حاول أن يصمد واقفاً لكن الغرفة كانت تدور به بشدة فقد تلقى الكثير من الضرب على رأسه…
سقط على ركبتيه وهو يغمم بسعادة:
– الحمد لله أنه لم يضربك هذه المرة..
امسكت به تقبل وجهه الغارق بالدم.. وتردد:
– سامحني يا قلبي…
– (اطمئني.. سأكون بخير ما دمتي بخير)، همس لها وسط ابتسامة رضا علت شفتيه قبل أن ينهار مغمى عليه عند قدميها..
اخوة طه كانوا فاهمين تماماً ما عليهم فعله في كل مرة يجن والدهم.. أنهم ينتظرون خروجه ويهرعون لبيت جارهم العم صادق يستجدونه.
وكالمعتاد لم يتردد الجار الطيب بتلبية استغاثتهم.. لكنه هذه المرة لم يصدق أن أباهم فعل كل ذلك بابنه البكر وبهذه الشراسة… راح يحوقل ويدعو الله بينما انطلق ولده للمجيء بسيارة اجره لنقل طه للمشفى…
وهناك كان من في الطوارئ يعرفونه جيدا… أنه نزيل مواظب عندهم.. جسده ووجهه ندبات وغرزات منذ أمد طويل، فلا شيء جديد هذه الليلة لكنه يظل شيء فظيع ما يحصل بهذه الاسرة.. وهل سينجو هذه المرة بهذا الجسد المثخن بالغرزات والمغطى بالشاش والأربطة؟
فعلوا كل ما يقدروا معه.. وظل عليه أن يقاوم ويصحو.. لكن إغماءاته طالت…
امه لم تتوقف عن الدعاء والبكاء بجواره… بينما حالته لم تتحسن حتى ظهر اليوم التالي.
الأطباء صاروا يتهامسون أنه قد يدخل بغيبوبة، لكن امه كانت واثقة أن دعاءها سيرشده لطريق العودة إليها فهو روحها الغالي.
وبما أنه تغيب عن الاختبار فقد أصاب القلق أصدقاءه فهو بطل الشلة النشيط وبسمتها الرائعة…
جاءوا للبيت وعلموا الخبر، فذهبوا للمشفى حيث وجدوا امه مازالت تقرأ القران بجواره..
وقفوا بعيداً في ذهول فما يبدو لهم غير مفهوم أبدا..
من يفعل بشاب رائع كل هذا وﻷجل ماذا؟؟!!
طه خلوق وكريم وناضج ولن يتسبب بضرر ﻷحد فلماذا يعامل هكذا؟؟
 
أمجد هو الوحيد الذي يعرف كل التفاصيل السيئة لحياة طه في اسرته، لذا فقد ظل متسمرا إلى جوار الام لا ينبس ببنت شفه خوفا ان ينفجر بالبكاء..
شعرت ام طه بما يشتعل داخله فطمأنته انه سيصحو وسيكون بخير بعون الله …
سالت دموع أمجد بعد عراك مرير على سفوح جفونه وغمغم:
– ان شاء الله.. يارب
مر اليوم طويلا وطه لا يبدي أي استجابة.. كذلك مضى اليوم التالي واليوم الذي يليه.. بدا واضحا انه يدخل مرحلة مختلفة..
حاول كل من زار الام ان يقنعها بالنوم او الأكل او حتى شرب شيء يقويها.. لكنها ظلت بجانبه وكأنها تحرس روحه ان تغادر الارض التي لم يرى منها الا الظلم والحمل الثقيل منذ صغره.
كانت تجدد وضوءها سريعا وتعود لجواره دون ان تعي اي شيء مما حولها …
في اواخر السحر هاجت عليها ذكرياتها ومشاعرها.. رأته امامها يأتي جميلا بريئا للحياة.. يكبر.. يلعب.. يملأ حياتها التعيسة بالحنان والضحكات..
لقد كان ابنها لكنه هو من اعتنى بها جيدا في زواجها الجحيمي.. كم فكرت تهرب.. تنتحر.. تخون …اي شيء الا الاستمرار مع هذا الوحش الذي باعها اهلها له كبيع العبيد …
كان دوما الى جانبها يمنحها دافع البقاء والثبات… يشاركها احزانها وآلامها المتواصلة نفسيا وجسديا..
لقد حاولت بكل طريقة لكن المجتمع الاثم الظالم حرمها كل سبيل للخلاص.. كم مرة كاد الحيوان ان يقتلها ضربا وتنكيلا ولا ينجدها أحد الا طفلها طه الذي كان دوما شجاعا في تقاسم الوجع معها …
اجهشت بالبكاء والنحيب على اقدامه:
– سامحني …سامحني ليس بيدي.. لقد طرقت كل الابواب وسعيت بكل سبب لكن لم ينفعني شيء.. كان علي اما ان اصبر او ان انهي حياتي..
انت علمتني ان اصبر ووعدتني ان تعتني بي كما لم يفعل اخوتي واهلي.. صدقتك اننا سننجو معا.. والآن …الآن..
اشتد بكاؤها:
– لا أستطيع الاستمرار بدونك بني. احتملت كل عربدته ﻷننا اتفقنا نصبر لله وندخل معا جنته.. لا تتركني فأنا لم أكن انسانة لها كرامة الا معك بني..
سامحني كنت اتمنى اكون اقوى لأحميك لأسعدك لكني لم أستطع…لم أستطع…
سمعت احدى الممرضات الصوت فأسرعت للغرفة لكنها تسمرت عند الباب. شعرت بقدسية المكان وحرمة انتهاكه فوقفت مضطربة تنظر للام المقهورة التي راحت تمرغ وجهها في رقبة غاليها وكأنها تبحث عن مكان تعيد له ما يغادره من حياة…
كانت تنتحب وتردد:
– يا رب متعني به (كمان شوية).. (كمان شوية).. يا رب أنت من ربيته واحسنت تأديبه حين لم يكن معه أحد يرعاه …يا رب أنقذه.
اخيرا تشجعت الممرضة واقتربت منها وراحت تهدئها وتطمئنها أن الله لن يخيب املها..
اجلستها على الكرسي واعطتها كوب ماء شربت منه رشفات قليلة ثم ابلغت الدكتور ان الام لن تحتمل ولابد من مهدئ.. وافقها الطبيب وجهز ابرة ومغذي ورافقها للغرفة. تفاجأوا انها ساكنة على الكرسي…هرعت الممرضة بفزع لها فلقد ظنت ان مكروه اصابها لكنها كانت نائمة لا غير..
ليست فقط نائمة بل في أفضل حالات اطمئنانها وتكاد الممرضة تجزم أن ما على شفتيها هي ابتسامة..
مرت ايام تحسن فيها طه بشكل غير مفهوم والعجيب أن الأم كانت أكثر هدوء وثقة. كان يبدو انها تعرف ما لا يعرفه الاخرون وأنها تنتظر فقط حدوثه..
طه عاش بعدها عمرا طويلا واعتنى بأمه واخوته كما وعد وأكثر…. فتح الله له في المعيشة ولم يفارق امه ابدا بل أكرمها بين احفادها ايما اكرام وافعمت حياتهما بالضحكات كما أمت بدايتها بالدمعات..
كانت دوما تحكي لأحفادها بطولات ابنها الذي لا يزيد عن ان يقبل كفها ورأسها ويهمس (أنت ملكتي).
الحكاية ليست من الخيال ولا دراما مبالغ بها بل هي من واقع يتكرر حولنا وبيننا وبدون ان يلتفت له أحد …
واقع ظلم يلتهم عائلاتنا دون ان يتصدى له النخبةً، واقع مخزي نشر البلاء والمصائب في اجيالنا، ورغم بشاعته لكنه لم يكسر اناس كطه عاشوا كما يجب وكانوا عوضا لأحبابهم دون ان يسألوا:
(وأنا من سيعوضني ؟؟)
كانوا ومازالوا اليد العليا التي تعطي رغم الفاقة والوجع …ولم تغرر بهم أهواء الأنانية والعجز…
فهل أنت منهم؟
 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى