عبد الواسع الحِميري: أحاول كسر الجمود بمفهوم النقد ووظيفة الناقد
يمن مونيتور/القدس العربي
في ترجمة واضحة لرؤيته وعلاقته بالنقد، ولمشروعه الذي بدأ بمحاورة النصوص ثم المفاهيم، ومن ثم تمثلها وتطبيقها في دراسة وتحليل خطاب الثقافة والحضارة الإسلامية في حقوله كافة، بدءا من حقل الخطاب السياسي والتاريخي، وانتهاء بالخطاب العقلي الفلسفي، إلخ، أصدر الناقد اليمني عبدالواسع الحِميري أستاذ النقد والفلسفة، مؤخرا ثلاثين كتابا نقديا (معظمها يصدر لأول مرة) عن دار عناوين بوكس تحت اسم «المشروع النقدي الجامع». يمثل هذا المشروع رافدا نوعيا للمكتبة النقدية والفكرية العربية، انطلاقا من خصوصية ما بذله الحِميري، بحثا ودرسا وتمثلا ونقدا وتحليلا. كان هذا المشروع موضوع هذه المقابلة التي جرت عبر البريد الإلكتروني:
المعنى الواحد
□ ماذا أردت قوله في هذا المشروع للقارئ والناقد العربي؟ أقصد فحوى مضمونه..
■أردت أن أقول إن الفعل النقدي يجب أن يتحول إلى فعل فاعل في نصوص الكلام الفاعلة في حياة الإنسان في أشكالها وتجلياتها كافة، وينبغي أن لا يبقى محصورا في إطار نص الكلام الواحد، بحثا فيه عن المعنى الواحد، المعبر عن الموقف الواحد، يجب أن يتحول إلى نوع من الإصغاء والحوار مع كل نصوص الكلام الحي؛ أدبية كانت، أم غير أدبية، خاصة تلك النصوص التي تفعل في حياة الإنسان الأفاعيل. أردت أن أتجاوز منطق الخطاب النقدي التقليدي الذي توقف عند حدود نقد النص الأدبي وكرس له كل جهده، وأن أذهب إلى أنماط النصوص المختلفة لأسائلها ولأبحث فيها عن دلالات أخرى تتجاوز ما هو أدبي إلى ما هو سياسي اجتماعي معرفي ثقافي وجودي فلسفي. أردت أن أقول للقارئ والناقد العربي: إننا بتنا في عصر جديد وعلينا أن نتعامل معه بروح جديدة، لتحقيق غايات ومقاصد جديدة، وفي إمكانات جديدة، تلبي متطلبات العصر، وتضعنا في مصاف الأمم الناهضة والفاعلة في مسيرة الحياة التي تحياها في إطار العصر.
خطاب السلطة والخطاب المضاد
□ متى بدأت فكرة هذا المشروع وكيف تشكلت حتى صارت بهذه الرؤية؟
■ بدأت فكرة المشروع مع بداية العمل فيه، أي منذ أواخر ثمانينيات القرن الماضي عندما قررت الانخراط في سلك العمل الأكاديمي، والانتماء إلى المؤسسة الأكاديمية، ممثلة في الجامعة، وقُبِلتُ معيدا في كلية اللغات في جامعة صنعاء، وشرعت في دراسة الماجستير، عندها شعرت بمسؤولية كبرى على عاتقي، باعتبار أنني اخترت السير في طريق البحث العلمي، وصرت مشروع باحث، وعليّ أن أفي بالتزامي وأتحمل مسؤوليتي؛ تجاه ذاتي، وتجاه مؤسستي التي أنتمي إليها وأعمل في إطارها، بالبحث عن كل جديد مفيد ، في مجال تخصصي (الأدب والنقد) ، فمنذ ذلك الحين وأنا أحاول، ما وسعتني المحاولة، طرح السؤال الجديد المفيد، ساعيا إلى التفوق في مجالي تخصصي، وقد كانت البدايات من الخطاب الشعري الذي اشتغلت عليه فترة من الزمن؛ باحثا فيه عن جديد الحداثة ومدى أصالة هذا الجديد، وأنجزت في إطاره عددا من الأبحاث الموسعة التي أخذت هيئة عدد من الكتب؛ كان أولها كتاب الذات الشاعرة في شعر الحداثة العربية، مرورا بكتاب كينونة التفرد والاختلاف، فكتاب: خطاب السلطة والخطاب المضاد الذي كرسته لدراسة بنية ظاهرة المديح في الخطاب الشعري اليمني في الفترة بين 1938- 1962، لأنتقل بعد ذلك إلى نقد الخطاب النقدي، ومنه إلى نقد الخطاب السياسي والديني والتاريخي والفلسفي، إلخ.
□ وكم استغرق إنجاز المشروع؟
■ استغرق مني إنجاز المشروع جل عمري العلمي أو الأكاديمي، أي منذ صدر قرار تعييني معيدا في جامعة صنعاء في عام 1987، فمنذ ذلك الحين، وحتى اللحظة وأنا مكرس جل إن لم يكن كل حياتي للقراءة والكتابة، حتى لقد صارت القراءة والكتابة هي الرئة التي أتنفس منها بشكل يومي…
الحركة العبثية
□ إذن كانت لحظة انتمائك إلى الجامعة هي البداية.. ماذا تعني لك الجامعة كمؤسسة؟
■ الجامعة – كما تصورتها وبقيت أتعامل معها- مؤسسة إنتاجية بامتياز؛ تنتج المعارف الجديدة والمفيدة في شتى ميادين الحياة التي يحياها الإنسان المعاصر في إطار مجتمعه، وليست مؤسسة لاستهلاك المعارف وإعادة إنتاجها، ولا يجوز ولا يصح أن تتحول لتغدو كذلك؛ لذلك كنت وما زلت أعتقد أنها المؤسسة الوحيدة المناط بها مهمة قيادة المجتمع بمؤسساته المختلفة، وينبغي أن لا ينازعها في ذلك منازع وإلا اختل أمر المجتمع وتعطلت دواليب الحياة فيه، وتوقفت حركة التنمية المستدامة في إطاره ودخل الناس في نوع من الحركية العبثية التي تجرهم إلى مربع الفوضى وتبديد الطاقات في غير ما فائدة أو نفع.
□ وما المراحل التي مرّ بها المشروع؟
■ أستطيع القول إنه مرّ بمرحلتين مهمتين؛ مرحلة التأسيس، ثم مرحلة التمَثل. وأعني بمرحلة التأسيس تأسيس الذات بإكسابها الخبرة النقدية؛ خبرة المساءلة؛ بدءا بمساءلة نصوص الكلام المنقودة، فمساءلة المفاهيم المؤسسة لتلك النصوص، من قبيل مفهوم الخطاب ومفهوم النص، فضلا عن مفاهيم أخرى حافة بهذين المفهومين المركزيين، كمفهوم اللغة والكلام والقول والقالة والمقال والمقام، إلخ، وكل ما له صلة بالظاهرة اللغوية التي تمثل مجال اشتغال الناقد. أما مرحلة التمثل الثانية التي مرّ بها المشروع فأعني بها تمثل جملة المفاهيم والأدوات أو الآليات المؤسسة في مجالات عملي واشتغالي النقدي. وقد بدأت المرحلة الأولى؛ مرحلة تأسيس الذات منذ أواخر الثمانينيات من القرن الماضي لتستمر حتى عام 2000، وتم تكريس هذه المرحلة في دراسة وتحليل الخطاب الأدبي والنقدي بشكل عام، لتلي ذلك المرحلة الثانية، وهي مرحلة تأسيس وإعادة بناء المفاهيم النقدية التأسيسية التي قام عليها المشروع، خاصة مفهومي: الخطاب والنص، حيث حاولت أن أعيد بناء هذين المفهومين المركزين في مشروعي النقدي، انطلاقا من موروثنا الثقافي والحضاري، وقد استغرق مني هذا الأمر فترة من الزمن، أي منذ عام 2000 تقريبا وحتى عام 2007، لأنتقل بعد ذلك إلى مرحلة تمثل تلك المفاهيم وتطبيقها في دراسة وتحليل خطاب الثقافة والحضارة الإسلامية في حقوله كافة، بدءا بحقل الخطاب السياسي والتاريخي وانتهاء بالخطاب العقلي الفلسفي، إلخ.
سد الفراغ
□ كيف تعاملتم مع تفرعات وتقسيمات وعناوين اشتغالاتك على المشروع؟
■عناوين كتبي هي عناوين القضايا والمشكلات النقدية والثقافية والمعرفية التي واجهتها في هذه الكتب، إنها عناوين لمحاور الأسئلة التي اعتملت في أعماقي وفرضت عليّ طرحها ومحاولة الإجابة عنها في هذه الكتب، لذلك لا أبالغ إن قلت: إن كل كتاب كتبته، في إطار هذه السلسلة النقدية كان هو الكتاب الذي طالما بحثت عنه ولم أجده، بل كان بمثابة الإجابة عن السؤال الذي طالما أرقني وأطار عن عيني لذيذ المنام، لا لشيء إلا لأني لم أجد له إجابة في ما كتب الكاتبون قبلي، ولأني لم أجد له إجابة أو إجابة مقنعة على الأقل، فقد كان علي تحمل مسؤولية المحاولة، والمبادرة إلى سد الفراغ، فكان هذا المشروع وكانت هذه السلسلة من الأبحاث والكتب التي تناسل بعضها من رحم بعضها الآخر في إطار كلي منسجم، يكمل بعضها البعض الآخر ويتكامل معه.
المناطق القصية
□ وماذا يقدم للمشهد النقدي العربي وماذا يضيف لمسار النقد العربي؟
■ يحاول المشرع النقدي الجامع أن يأخذ بيد القارئ (الناقد) العربي إلى مناطق ما تزال بعيدة عن متناوله، بل ربما بعيدة عن همه واهتمامه، فهو يحاول أن يفتح عينيه على أهم المناطق التي ينبغي أن ينشغل بها، ويشتغل عليها، باعتبار أنها من المناطق المهمة في مسيرة الإنسان العربي؛ فبدل أن يبقى في إطار النص الواحد؛ المغلق المتعالي على واقع حياة هذا الإنسان، فهو يحاول أن يسحب هذا القارئ الناقد إلى تلك المناطق، ويحاول أن يقدم له الأدوات والآليات التي من شأنها أن تساعده على النهوض بدوره في الحفر في تلك المناطق القصية التي ما تزال بعيدة عن متناوله.
□ وماذا يمثل للمشهد النقدي اليمني؟
■أعتقد أنه يمثل ضرورة المشهد النقدي اليمني خاصة، والمشهد النقدي العربي عامة، كونه يحرك السكون في هذا المشهد، ويفتح آفاقا جديدة للتفاعل والجدل النقدي العربي، ويكسر الجمود الذي أحيط به مفهوم النقد ووظيفة الناقد. إنه يعيد الاعتبار للنقد وللناقد الذي بقي طوال تاريخه مجرد خادم في بلاط الشعر والشاعر.
الآني والعابر
□ ما الصعوبات التي اعترضت مسار إنجازه وكيف تجاوزتها؟
■ الصعوبات كثيرة، من بين أهمها أن من يحمل عبء مواجهة الإجابة عن مثل هذه التساؤلات المؤرقة أو تلك القضايا والإشكالات عليه أن ينقطع لها عن كل ما يمكن أن يقطعه عنها، وأن يكرس لها جهده، وألا ينصرف عنها إلى ما هو جزئي، إلى ما هو آني وعابر، أو إلى ما هو وظيفي ونفعي، بمعنى أن عليه أن يخلص لمشروعه وأن يضحي بوقته وجهده، وألا يستجيب لمتطلبات الحاجة؛ الحاجة للترقية، للحصول على الدرجة العلمية، على الوظيفة، على المال أو الجاه أو المنصب، بل عليه قبل هذا وذاك أن يتوارى عن منطقة الضوء التي قد تفرض عليه أن يذهب بعيدا عن مشروعه. عليه أن ينقطع لمثل هذه القضايا الكبرى لكي يعطيها حقها من التأمل والنظر، لكي يجيب عن الأسئلة المتعلقة بها، وألا ينصرف إلى الآني والعابر، بحيث لا تصبح كتاباته استجابة لمتطلبات السوق، أعتقد أن الصعوبة الحقيقية هي أن تنصرف إلى مشروعك رغم كل المعوقات وأن تبذل حياتك في سبيل إعطاء هذا المشروع ما يستحق، وهذا ما أعتقد أني فعلته؛ أنا لم أكتب كتابا من أجل الترقية أو للحصول على درجة سوى كتاب واحد هو الذات الشاعرة الذي تقدمت به لنيل درجة الدكتوراه، وفي ما عداه فإن كل ما كتب في إطار هذه السلسلة النقدية إنما كتبته بدوافع معرفية خالصة، وإن استفدت من بعضه في الحصول على الترقيات ونيل الدرجات العلمية التي من بينها درجة الأستاذية.
□ ألا ترى أن حجم المشروع يجعل اقتناءه من قبل القارئ العربي العادي والمتخصص صعبا؟ أقصد أن اقتناءه سيكون متاحا كثيرا للجامعات والمؤسسات؟
■ المشروع كبير، ومن الصعوبة على القارئ العادي أن يحصل على كل مكوناته، لذلك سنحاول أن نوفره في المكتبات العامة، في الجامعات. وسأحرص على أن يكون هذا المشروع بكامل مكوناته متاحا للقارئ في المؤسسات الأكاديمية على الأقل، سأحرص على أن أوفره لمكتبات الجامعات اليمنية وغير اليمنية.