كنت قد تحدثت في مقال قديم لي عن أبرز مشكلات قراءة النص القرآني لدى التفاسير القديمة والمعاصرة وكان من أهم تلك المشكلات هي إغفالهم للسياقات المختلفة للنص، السياق الثقافي التاريخي، والسياق القرآني العام، وسياق الآيات ذاتها.
كنت قد تحدثت في مقال قديم لي عن أبرز مشكلات قراءة النص القرآني لدى التفاسير القديمة والمعاصرة وكان من أهم تلك المشكلات هي إغفالهم للسياقات المختلفة للنص، السياق الثقافي التاريخي، والسياق القرآني العام، وسياق الآيات ذاتها.
وأجدني اليوم -وأنا بصدد تأمل الآيات التي تحكي عن قبيلة عاد ونبيهم هود عليه السلام ومدينتهم إرم- أعاود ذكر تلك المشكلات حين أرى البعض يحمل الآيات ما لا تحتمل بإبعادها عن سياقها، فحين تتحدث الآيات عن إرم بأنها ذات العماد، تحتمل الآية إما كثرة في الأعمدة أو ضخامة في حجمها، ولا تحتمل شيئا خارقا في الأعمدة، وحين تتكلم الآيات عن أنه لم يخلق مثلها في البلاد فإن المقصود بالبلاد هي تلك المنطقة من شبه الجزيرة لا كل بلاد العالم، وأن الضمير في قوله “التي” قد يعود على “إرم” وقد يعود على “العماد” فيكون المعنى أن إرم لم يوجد مثلها في تلك الحقبة التاريخية وتلك البقعة الجغرافية، أو أن تلك الأعمدة فيها من الكثرة أو الضخامة أو المادة المصنوعة منها (قد تكون من الفضة أو مكسوة بالذهب) ما يجعلها منفردة ولا يوجد مثلها عند غير تلك القبيلة في ذلك الزمن وتلك الجغرافيا. ولا تحتمل الآية أن تكون تلك المدينة منفردة ولا يوجد مثلها في كل زمان ومكان.
تلك الدلالات يمكن أن نرجح إحداها بناء على ما يكتشفه العلم الحديث وخاصة علم الآثار حول هذه الأحداث، فإذا جاء العلم قريبا من إحدى تلك الدلالات التي يقبلها النص رجحناه على غيره.
بهذه القراءة للآيات يمكننا وضع تلك الدلالات في دائرة المعقولية إذا ما قارنها بما اكتشف حديثا في مدينة “وبار” في عمان، والتي تدخل ضمن منطقة الأحقاف، فالأحقاف تمتد لمنطقة واسعة جنوب صحراء الربع الخالي وليست تلك المنطقة المسماة اليوم والتي جزأتها الحدود الأخيرة بين دولتي اليمن وعمان..
تعالوا بنا نتأمل ما وصل له علم الآثار في تلك المنطقة التي يعتقد أن قبيلة عاد كانت تقطنها، ثم نطابقه بما قال القرآن.
في عام 1990م اكتشف عالم الآثار نيكولاس كلاب أن هناك مدينة مطمورة بطبقات من الرمال تصل إلى 12 مترا وأكثر، تقع هذه المنطقة في مدينة “وبار” في منطقة الشصر في صحراء ظفار بعمان، وانتهى الفريق البحثي الأمريكي في عام 1998م وبعد عدة دراسات إلى الكشف عن هذه المدينة، والكشف عن آثار قلعة كبيرة لها ثمانية أضلاع سميكة الجدران بأبراج في زواياها مقامة على أعمدة ضخمة، يصل ارتفاعها إلى تسعة أمتار وقطرها إلى ثلاثة أمتار. وأن هذه المدينة تعود إلى الفترة 3000 قبل الميلاد وأنها تعرضت لعاصفة رملية عنيفة أدت إلى غمرها بالرمال.
كان هذا ما قاله الفريق البحثي؛ فتعالوا بنا لنرى ما يطابقه من القرآن والذي جعل الفريق نفسه يقتنع بأن المدينة المكتشفة هي ذاتها التي تحدث عنها القرآن، يذكر القرآن أن المدينة ذات العماد، وأن تلك الأعمدة كانت في زمانها وفي منطقتها منفردة بحيث لا يوجد مثلها، وكما قلت سابقا فقد تكون الأعمدة كثيرة أو ضخمة أو مصنوعة من الفضة أو مكسوة بالذهب أو قد تكون كل ذلك أو بعضه، كما يذكر القرآن أن تلك المدينة قد عوقبت بالريح الشديدة التي استمرت عدة أيام.
بالمقارنة بين دلالة الآيات وما قاله الفريق البحثي أجد أن ما اكتشفوه هو نفسه ما ذكره القرآن، ولا يوجد ما يجعلني أستبعد ذلك، إلا أن يجد علم الآثار دلائل وشواهد أقوى تنقض ذلك، فالحجة لا تنقضها إلا حجة أخرى أقوى منها.
الجدير بالذكر أن قصة قوم عاد وثمود لم ترد في التوراة، ولا في أي كتاب ديني آخر، وإنما ذكرها القرآن وحده، وكون التوراة لم تذكر ذلك ولا غيرها من الكتب فهذا يعني أن أولئك الذين اتهموا محمدا عليه السلام بأنه استقى قصصه القرآني من التوراة قد وقعوا في حرج، خاصة بعد أن يكشف علم الآثار مصداقية تلك القصص ودقتها، مقارنة بما يمكن أن يصله محمد عليه السلام في تلك الحقبة من إمكانات تجعله يلم بمعارف وقصص حدثت قبله بآلاف السنين، فالعبقرية وحدها لا تكفي لتفسير ذلك، وليس هناك من تفسير غير وحي السماء.
ولأولئك الذين يمرون على المتشابه بين العهد القديم والقرآن أقول: ابحثوا في نقاط الاختلاف بين قصص الكتابين وستجدون الإضافة النوعية لقصص القرآن، كما أنكم ستجدون فيها المعقولية مع ما تقوله علوم العصر الحديث (الأركيولوجيا- الأنثروبولوجيا- الميثولوجيا) ، إذا حاولنا فهم الآيات في سياقاتها وابتعدنا عن التحديد الضيق التي حددته تفاسير التراث، كما أنكم ستجدون في آيات القرآن مرونة لدلالة أخرى يحتملها النص ولا تبتعد عن ما يصل إليه العلم، لكن ذلك أشبه بالمستحيل مع أسفار العهد القديم التي لا تقبل تفصيلات أحداثها ودلالتها ما يقوله العلم الحديث.