كتابات خاصة

الحب المختطف

أحمد الرافعي

ابتدأت حياتها منذ خفق قلبها لأول مره.. كانت خفقة اللقاء الأول الذي رفع فيه القلب الراية البيضاء وطار بلا تأن إلى سماء الحب.. حب توجته الأيام بالزواج وككل الأزواج كان الزمان يبسط يديه لهم بالدعاء.

ابتدأت حياتها منذ خفق قلبها لأول مره.. كانت خفقة اللقاء الأول الذي رفع فيه القلب الراية البيضاء وطار بلا تأن إلى سماء الحب.. حب توجته الأيام بالزواج وككل الأزواج كان الزمان يبسط يديه لهم بالدعاء.
 يسجن الحوثيون الحب، ويطلقون للكراهية العنان في هذا البلد.. تمر عليها الذكريات وتستعيد من الماضي جميل الأيام ثم تطل المرارة في نهاية المطاف على هيئة أسئلة: أين هو؟ متى سيعود؟ هل هو بخير؟ هل يأكل جيدا؟!
تخنقها العبرات، وهي تتذكر مدحه لطبخها وامتناعه عن الأكل في الخارج. تعودت أن يقول لها إن (اللقيمات اللائي يأكلهن من يديها هي رسائل محبه لا أكثر).
لزوجات المختطفين نهار ككل الناس، تمارس فيه أنشطتها التي تستقوي بها على النسيان، وتلمع في لياليهن الدموع التي تبوح بالشكوى.
وهل تتأوه السماء تأوهها لسماع شكوى المحب المظلوم؟
مر خمسة أشهر وثمانية أيام منذ جاءته العصابة وغيبوه في مكان مجهول؛ تتسلل البسمة إلى عينيها وتستعيد ماحكاه لها صديقه من أن حبيبها صعد إلى طقم الحوثيين رافع الرأس. كان محاطاً بعشرة مدججين بالأسلحة، وكان هو مدجج بابتسامته الهازئة. نعم هذا هو زوجها الذي أحبت.
هي في البيت الذي حوى حبهما.
كل تفاصيل هذا البيت تشهد له بالنبل والنقاء؛ سجادته المرتبة بلطف، مصحفه الذي اشتاق إلى صاحبه، كشوفات الفقراء الذي أنشأ لأجلهم مبادرة من شباب الحارة، وكتب الانجليزي المتناثرة كان على موعد مع اختبار التوفل.. يا ليت السجان يسمعه حين يردد الأغاني بصوته العذب، ويبكي حين يرى طفلاً ترك مقاعد الدراسة ليمارس الشحاذة!
يقطع عليها خواطرها بكاء صبيها الذي سيدخل عامه الأول بعد يومين.. كتب لها قبل أيام رسالة حين خرجت للتسوق: (لا تنسي أن تشتري شموع عيد الميلاد). تهدهد صغيرها، وتتأمل في وجهه الملائكي الذي يشبه وجه أبيه: (نم يا صغيري إن هذا المهد يحرسه الرجاء).
ماهي تهمته؟ أكثر الأسئلة التي لا تحصل فيها من العصابة على جواب. وإن أجابوك كان كذباً أو تهمة لا تصلح لحبس خمس دقائق!
قالت لعمها ذات يوم: ماهي تهمته؟
بسط الشيخ الشايب يديه، وخرجت من فمه ابتسامة تجمع بين المرارة والسخرية: (قالوا انه داعشي).. كان الوقت عصيبا لكن ضحكاتي جلجلت في أنحاء الغرفة..
تذكرت ولعه بالحياة، وروحه الجذلى التي يتنفس فيها المرح!!قادهم بحثهم المضني أن حبيبها في سجن هبره؛ بعد خمسة أشهر وثمانية أيام. عرف عمها أنه هناك.. فرحوا يومها وذرفوا الدموع لأنه لم يزل حياً. ولما أبلغها عمها أنهم سيزورونه غداً أشرقت في قلبها ألف شمس. شموس أنارت ليلها فلم تنم. وهل ينام العاشق وهو ينتظر الموعد!!
كم أنت طويل أيها الليل!
جاء الصباح أخيراً، لكأن هذا الصباح جاء من أجلها وحدها.
الساعة العاشرة تحركت بهما السيارة صوب سجن هبره. في الطريق رأت صنعاء مختلفة ليست صنعاء كل يوم. صنعاء (الأم التي حول الحوثيون قلبها إلى زنزانة حبسوا فيها خيرة ابنائها). كانت تصرخ في صنعاء كل يوم؛ في تفاصيل صنعاء اليوم ما يوحي بالخجل.
ستلتقي معه بعد قليل وسيضمها إلى حضنه ويهمس لها بكلمة العشق الخالد. بلهجته الإبية الخالصة: (احبش)، للشين فلسفتها التي دافع عنها.
قال إن الكلمات تجد لها ممراً إلى القلوب حين لا نحملها شيئا من التكلف. لن تجادله اليوم.
 قلها.. قلها. فقط واهمس بها.
وافتح بها حصون قلبي التي ملت الانتظار.
وصلت السيارة اخيراً!
هذا هو سجن هبره. وهنا يقبع قلبها الذي تستمد منه الأيام ضوءها.
لم تكن وحدها، كن النساء بمختلف أعمارهن ينتظرن دورهن في لقاء الغائبين؛ الأم والزوجة والأخت والجدة والعمة والخالة.
في الجموع المفجوعة كانت فتاة في مقتبل العمر تحمل وجه ملاك؛ (مودة) ابنة لأحد المختطفين. جاءت على كرسي المرض تبغي لقاء أبيها؛ أمها وراءها تسوق الكرسي وتهمس بين الفينة والاخرى بدعاء يهز عرش الرحمن: (الله ينتقم من كل ظالم. الله يروينا مصيبتهم.. حسبنا الله ونعم الوكيل).
زوجها أخذ منذ تسعة أشهر وهو مصاب بالسكر ومنعوا عنه العلاج. قالت انهم عذبوه و…..
رحماك يا الله..
ظلت تنتظر والشاويش ينادي بصوت عالي عن الدور.. دقيقتان أو ثلاث ثم تخرج الاسرة معلنة انتهاء الزيارة!
كان العدد كبيرا والعيون المنتظرة تشتعل فيها المآسي.
هل سيأتي دورها؟ انقبض قلبها حين راودها خاطر أنه ربما لن تراه اليوم.
ظلت في مكانها تنتظر؛ وبعد ساعات الانتظار جاء دورهم.
لماذا بكى الصبي في تلك اللحظة، هل هي الأرواح حين تتحدث.
بين ممرات نسجتها القاذورات دلفت إلى السجن. لم يسمح إلا لها ولعمتها التي اجهشت بالبكاء حين رأت ابنها لأول مرة، أما هي فقد غاصت في عينيه. عيناه مرهقة. وجسمه أصابه النحول. ليس هذا هندامه.. لكن في وجهه كبرياء نبي. وتجري كواكب الحب في عينيه.
كانت هي المرة الأولى التي يضعهما الحب في اختبار الغياب.
واتحدت عزيمتهما أن الغياب يتبعه حضور المستقبل الذي يليق باليمنيين.
بينهما أمتار وحواجز من الحديد، وحولهم ينتشر المحققون والعسكر. ضل حديث العيون بينهما ثم رفعت صبيه في وجهه، أشرق وجهه حين رآه ونثر له قبله وقال: (كل عام وأنت بخير يا ولدي). توقفت عمتي عن البكاء حين مازحها بأنه يشتاق إلى عصاها الغليظة التي كانت تلصقها بجسمه حين كان صبيا. قال لها: قد اخذت نصيبي ونصيب ابني، خفي عليه الضرب يا اماه.. اختلطت الضحكات بالدموع؛ وارتفع صوت السجان بانتهاء الزيارة، رفع لهما شارة النصر بصمت وودعها بابتسامته التي نسجتها عنفوان الإرادة اليمنية التي لا تقهر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى