تعرض التصور الأمريكي للنقد والمراجعة في الاستراتيجية والطرق العملياتية إلى جانب تغيير في الموقف الأمريكي مع إدارة بايدن في مكافحة الإرهاب بالتركيز على التطرف الداخلي ومواجهة المنافسة العالمية مع الصين وروسيا. إلى ذلك، حالت النزعة المركزية في مكافحة الإرهاب دون نجاح أطر إقليمية في مكافحة الإرهاب لافتقارها للموارد وعدم انسجام الأطراف المنخرطة. لذا، لم يتشكّل هيكل أمني وعسكري متعدد الأطراف في المنطقة قادر على مواجهة الإرهاب.
في الوقت عينه، بدت الآثار العكسية للمقاربة الأمريكية: ضحايا مدنيين للطائرات المسيرة، عمليات عمياء وتأليب على أمريكا في الأوساط المحلية. إضافة إلى استغلال السلطات المحلية مكافحة الإرهاب سياسياً في ضرب قوى المعارضة وكبح التحول الديمقراطي وتراجع سجل حقوق الانسان.
هذا التحول في الموقف الأمريكي المصحوب بإرادة في تقليل كلفة التدخل والنفوذ في منطقة قوس الأزمات الممتد من أفغانستان وحتى موريتانيا يوافق ظهور قوى إقليمية صاعدة راغبة في تحقيق نفوذ وأداء دور إقليمي متعاظم. لتحوز بذلك الدول الإقليمية الصاعدة (إيران، وتركيا، والامارات، والسعودية، وقطر) على مساحة مناورة كبيرة تتمثل بالتحول من السياسة الخارجية الناعمة الى سياسة ذات نزعة تدخلية وإعادة رسم خارطة القوى في بعض البلدان؛ اليمن والصومال والسودان، عبر تحديد الحلفاء وتعيين الخصوم.
لذا، عززت شهية الدول الإقليمية الصاعدة، في أداء دور هام، عسكرة منطقة خليج عدن والبحر الأحمر؛ حيث يجري تنفيذ دوريات بحرية وتأمين حضور عسكري إماراتي- سعودي، في إطار التحالف العربي، على شواطئ وجزر اليمن وأرتيريا، إلى جانب وجود قواعد عسكرية دولية ولاسيما بعدما تحولت اليمن، بسبب الحرب الأهلية، من دولة شريكة في مكافحة التهديدات الأمنية في المنطقة إلى مصدر تهديد للملاحة نتيجة لسلوك الحوثيين واستخدامهم لألغام بحرية وقوارب مسيّرة تستهدف السفن العسكرية والمدنية.
من المركزية إلى التعاون
في هذا السياق، ورغم طرح مبادرات إقليمية في مكافحة الإرهاب لم يكتب لها النجاح كمبادرة روسيا في بناء منظومة أمن إقليمي في الخليج أو مبادرة السعودية لإنشاء تكتل دول البحر الأحمر، تعرض التعاون المتعدد إلى ضمور، لتطرح بلدان مقاربة تعاون ثنائي بديل.
من هذه الدول نجد دولة الإمارات التي عقدت مؤخراً اتفاقين مع كل من اليمن في كانون الأول/ديسمبر 2022 والصومال في بداية هذا العام 2023 لتعاون عسكري لم يظهر من تفاصيله سوى أنه يرتكز على مكافحة الإرهاب والتدريب والإعداد العسكري.
تنسجم هذه الاتفاقية مع التصور الاستراتيجي للسياسة الخارجية الإماراتية وأهدافها في المنطقة وفي أفريقيا: (اقتصادياً حماية المصالح الإماراتية وتنميتها، وجيوسياسياً ضمان أمن الممرات المائية، ولاسيما مضيق باب المندب). بذلك، تتعزز قدرات الإمارات الاحترافية والعملياتية؛ وجود وحدات أمنية وعسكرية محلية في بلدان الاتفاقات ينسجم مع ثقافة وآلية العمل العسكري الإماراتي وهو يُعفي الإمارات من الانتشار العسكري.
بعد سنوات من التدخل في إطار التحالف العربي العسكري بقيادة السعودية في اليمن، من الجيد مأسسة التدخل الخارجي في بلدان المنطقة. لكن يندرج موعد الاتفاقات الأمنية الامارتية الاخيرة في سياق معقد يجعل من السياسة الخارجية الإماراتية ترتكز أكثر على المقاربة الأمنية والعسكرية في بلدان هشة أو شبة منهارة وتعاني من انقسامات حادة وعرضة لاستقطاب إقليمي يفت من عضد الدولة ومن السلم الاجتماعي في هذه البلدان.
علاوة على أن الاتفاق مع اليمن لم يمر بعد بالمسار التشريعي الداخلي ولم يعرض على البرلمان. وهذا يمثل عيباً في اتفاق بهذه الأهمية، أن يكون غير مستوفٍ للشروط التي تجعله شرعياً وملزماً.
إلى ذلك، أثبتت المقاربة الأمنية المنفردة في مكافحة الإرهاب فشلها. واستمرارها يعني تراجع أهمية المقاربات السياسية والاجتماعية والحوكمة والمشاركة السياسية. تصدّر المقاربة الأمنية في مكافحة الإرهاب على حساب التحول الديموقراطي في اليمن والصومال، في ظل ضعف البناء المؤسسي، يفتح إمكانية توظيف مكافحة الإرهاب في مد النفوذ والهيمنة والتدخل في الشؤون الداخلية، وهذا قد يؤدي إلى النيل من سلامة البلدين، وتعزيز القبضة السلطوية وخنق المشاركة السياسية دون معالجة المشاكل الاجتماعية. ومن المتوقع أن تثير اتفاقات كهذه حساسية دول المنطقة المنافسة للإمارات أو يفهم على أنه إيذاناً بعدم كفاءة التعاون المتعدد في إطار التحالف العربي.
*نشر أولاً في “صدى” كارنيجي يوم 7 فبراير/شباط2023
*مصطفى ناجي هو باحث وكاتب عربي يمني مقيم في فرنسا مهتم بـ جيوبوليتيك البحر الأحمر، جاصل على الماجستير في الجيوبوليتيك من باريس الثامنة، ويعدّ حالياً رسالة دكتوراة في علم الاجتماع حول التنشئة السياسية لجماعات الإسلام السياسي.