أول جمعة من رجب
عندما عدت للبحث عن ارتباط احتفال الناس في أول جمعة من رجب بوصول معاذ وخطبته في جامع الجند في اليمن لم أجد ما يؤكد ذلك من كتب التراث الإسلامي التي ذكرت قصة بعث النبي عليه السلام لمعاذ إلى اليمن. فقد اختلفت المراجع والمصادر في أي شهر وعام بعث معاذ إلى اليمن. فأهل الحديث ذهبوا إلى أنه في السنة العاشرة وأهل المغازي ذهبوا إلى أنه في السنة التاسعة. قال ابن حجر: وكان بعث معاذ إلى اليمن سنة عشر قبل حج النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكره المصنف -البخاري- في أواخر المغازي، وقيل كان ذلك في أواخر سنة تسع عند منصرفه صلى الله عليه وسلم من تبوك رواه الواقدي بإسناده إلى كعب بن مالك وأخرجه بن سعد في الطبقات عنه، ثم حكى بن سعد أنه كان في ربيع الآخر سنة عشر، وقيل بعثه عام الفتح سنة ثمان. [فتح الباري 3/358] وكان هدف إرساله لليمن كما ذهب الأكثرون معلماً للناس وقاضياً بينهم، وليس والياً كما ذهب البعض.
أما عند المؤرخين فيذكر المؤرخ ابن المجاور الدمشقي (ت690هـ) في كتابه تاريخ المستبصر احتفال الناس في جامع الجند لكن دون ربط لها بوصول معاذ إلى اليمن، فيقول: “ويجتمع في أوّل جمعة رجب في جامع الجند من كل الأعمال ناس يصلون فيه ويبلغ ذلك اليوم في الجامع مقدار ما يسع رجل واحد درهم فيقال دينار ليصلي ركعتي الجمعة ويكون فيه ذلك اليوم نور مشهود. وأهل الجند وما حوله من القرى يروون في فضل هذا المسجد أخبارا من جهة زيارته في أوّل جمعة في رجب: تعدل عمرة، بل قالوا: حجة. ولم يزل الناس يزورونه في كل سنة في أوّل رجب حتى إثر ذلك. [تاريخ المستبصر 1/64]. ولم يربط ابن المجاور ذلك الحدث بوصول معاذ إلى اليمن.
ويذكر المؤرخ اليمني بهاء الدين الجندي اليمني (ت 732هـ) في كتابه السلوك في طبقات العلماء والملوك أن احتفال الناس في مسجد الجند مرتبط بوصول معاذ إلى اليمن، إذ يقول: ” ثم بعث صلى الله عليه وسلم من الأنصار أبا عبد الرحمن معاذ بن جبل بن عمرو بن أوس بن عابد بن عدي بن كعب الأنصاري الخزرجي .. في رببيع الأول من سنة تسع، وقيل غير ذلك، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى ملوك حمير وإلى السكاسك وهم أهل مخلاف الجند وكانت رياستهم إذ ذاك لقوم منهم يقال لهم بنو الأسود ووصاهم بإعانته على بناء مسجد الجند، ووعد من أعانه على ذلك خيرا كثيرا.. ثم ذكر أن معاذا قدم الجند في جمادى الآخرة وأوصل كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني الأسود وقد كانوا أسلموا ثم إنهم اجتمعوا في أول جمعة من رجب وخطبهم.. ومن ثم ألف الناس إتيان الجند في أول جمعة من رجب يصلون بها الصلاة المشهورة، ويشاهد في تلك الليلة بركات ولا تكاد تخلو ليلة الجمعة الأولى من رجب أو يوم خميسها من مطر هذا غالب الزمن. [السلوك في طبقات العلماء والملوك 1/82]. ولكن هذا المرجع متأخر وبالتالي فهو غير كاف للاعتماد عليه في توثيق ذلك الارتباط.
والمشهور أن الاحتفال بذلك اليوم كان عند الصوفية في عدة بلدان وقد خصوا هذا اليوم بصلاة خاصة تسمى “صلاة الرغائب”، وهي من البدع التي ابتدعها بعض المتصوفة ووضعوا لها أحاديث في فضلها، فربما كان الاحتفال في مسجد الجند جزءاً من الطقس الصوفي في تلك المنطقة، حيث أنها اشتهرت تاريخيا بالتصوف، وأما عن بداية تخصيص هذا اليوم بصلاة خاصة فقد حكى الطرطوشي (ت520هـ) عن أبي محمد المقدسي؛ أنه قال: ” لم يكن عندنا ببيت المقدس قط صلاة الرغائب هذه التي تصلى في رجب وشعبان، وأول ما حدثت عندنا في أول سنة (448) ثمان وأربعين وأربع مائة: قدم علينا في بيت المقدس رجل من نابُلُس يعرف بابن أبي الحمراء، وكان حسن التلاوة، فقام، فصلى في المسجد الأقصى ليلة النصف من شعبان، فأحرم خلفه رجل، ثم انضاف إليهما ثالث، ورابع، فما ختمها إلا وهم في جماعة كثيرة!! ثم جاء في العام القابل فصلى معه خلق كثير، وشاعت في المسجد. وانتشرت الصلاة في المسجد الأقصى، وبيوت الناس ومنازلهم، ثم استقرت كأنها سنة إلى يومنا هذا “! فقلت له: فأنا رأيت تصليها في جماعة؟ قال: ” نعم؛ وأستغفر الله منها “!. قال: ” وأما صلاة رجب؛ فلم تحدث عندنا في بيت المقدس إلا بعد سنة ثمانين وأربع مائة، وما كنا رأيناها ولا سمعنا بها قبل ذلك “. [الحوادث والبدع 133].
وقد ذكر الفقهاء صلاة الرغائب ضمن البدع المذمومة، وهي اثتنى عشرة ركعة بين المغرب والعشاء ليلة أول جمعة رجب. [مغني المحتاج 1/459، اسنى المطالب 1/206]. وقال كثير من الفقهاء أنها بدعة باتفاق أئمة الدين، والحديث المروي فيها كذب بإجماع أهل المعرفة بالحديث. [الفوائد الموضوعة في الأحاديث الموضوعة ص72 للمقدسي الحنبلى (ت 1033هـ)]. قال ابن القيم رحمه الله في ” “وكذلك أحاديث صلاة الرغائب ليلة أول جمعة من رجب، كلها كذب مختلق على رسول الله صلى الله عليه وسلم”. [المنار المنيف ص95]. وقال بدر الدين البعليّ (ت 778هـ): “فمن ذلك أن من أحدث عملا في يوم، كصوم أول خميس من رجب وصلاة ليلة الجمعة التي يسمونها “صلاة الرغائب”، وما يتبع ذلك من إحداث أطعمة وزينة وتوسع في النفقة. [المنهج القويم في اختصار اقتضاء الصراط المستقيم 141].
وأول من اختلقها ووضعها هو أبو الحسن الجهضمي كما ذكر ذلك ابن الجوزي وابن كثير وغيرهم، يقول ابن كثير: “علي بن عبد الله بن جهضم أبو الحسن الجهضمي الصوفي المكي، صاحب بهجة الأسرار، كان شيخ الصوفية بمكة، وبها توفي، قال ابن الحوزى: وقد ذكر أنه كان كذابا، ويقال إنه الذي وضع حديث صلاة الرغائب. [البداية والنهاية لابن كثير 12/16].
جمعة رجب وإسلام أهل همدان:
أما ارتباط جمعة رجب بإسلام أهل همدان على يد علي بن أبي طالب فلا مستند له في التاريخ، وما جاء من قصة إسلامهم مع علي يتناقض مع عدة شواهد ذكرها التاريخ في قصة إسلام أهل همدان.
يحكي التاريخ عن دخول مبكر للإسلام إلى اليمن، وذلك عبر بضعة أفراد ممن آمن بالنبي عليه السلام في مكة كأبي موسى الأشعري، وقيس بن مالك الأرحبي الهمداني، والطفيل بن عمرو الدوسي، وفروة بن مسيك المرادي، ولم تأت رسالة النبي عليه السلام إلى باذان في السنة السادسة مع وبر بن يحنس الخزاعي إلا وقد انتشر عند بعض القبائل التي أسلم منها أولئك الصحابة. وقبيلة همدان كما يذكر التاريخ كانت قد أسلمت على يد أحد زعمائها وهو قيس مالك الأرحبي، فقد جاء في الطبقات الكبرى لابن سعد:
“وفد همدان: أخبرنا هشام بن محمد قال: حدثنا حبان بن هانئ بن مسلم بن قيس بن عمرو بن مالك بن لأي الهمداني ثم الأرحبي عن أشياخهم قالوا: قدم قيس بن مالك ابن سعد بن لأي الأرحبي على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو بمكة فقال: يا رسول الله أتيتك لأؤمن بك وأنصرك. فقال ص: مرحبا بك. أتأخذوني بما في يا معشر همدان. قال: نعم بأبي أنت وأمي! قال: فاذهب إلى قومك فإن فعلوا فارجع أذهب معك. فخرج قيس إلى قومه فأسلموا واغتسلوا في جوف المحورة وتوجهوا إلى القبلة. ثم خرج بإسلامهم إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: قد أسلم قومي وأمروني أن آخذك. فقال النبي. ص: نعم وافد القوم قيس!. وقال: وفيت وفى الله بك! ومسح بناصيته، وكتب عهده على قومه همدان أحمورها وغربها وخلائطها ومواليها أن يسمعوا له ويطيعوا وأن لهم ذمة الله وذمة رسوله. [طبقات ابن سعد 1/256].
كما يذكر ابن سعد في طبقاته أن هناك رجلا من أرحب همدان قد أسلم في العهد المكي حيث كان النبي عليه السلام يعرض نفسه على القبائل، قال ابن سعد في الطبقات الكبرى: “أخبرنا هشام بن محمد. أخبرنا إسماعيل بن إبراهيم عن إسرائيل بن يونس عن أبي إسحاق عن أشياخ قومه قالوا: عرض رسول الله – صلى الله عليه وسلم – نفسه بالموسم على قبائل العرب فمر به رجل من أرحب يقال له عبد الله بن قيس ابن أم غزال فقال: هل عند قومك من منعة؟ قال: نعم. فعرض عليه الإسلام فأسلم. ثم إنه خاف أن يخفره قومه فوعده الحج من قابل ثم وجه الهمداني يريد قومه فقتله رجل من بني زبيد يقال له ذباب. ثم إن فتية من أرحب قتلوا ذبابا الزبيدي بعبد الله بن قيس. [طبقات ابن سعد 1/256].
وتحدث ابن سعد أيضاً عن وصول وفد من همدان إلى النبي عليه السلام ولكن دون تحديد لزمن وصول ذلك الوفد، وبعض المؤرخين يرجعه إلى عام الوفود في السنة التاسعة للهجرة، وسواء جاء الوفد لمبايعة النبي أو جاء لإعلان ما تبقى من أهل القبيلة للإسلام ففي كل ذلك مناقضة لما قيل إنهم أسلموا على يد علي. يقول ابن سعد: “أخبرنا علي بن محمد بن أبي سيف القرشي عمن سمى من رجاله من أهل العلم قالوا: قدم وفد همدان على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عليهم مقطعات الحبرة مكففة بالديباج. وفيهم حمزة بن مالك من ذي مشعار. فقال رسول الله. ص: نعم الحي همدان ما أسرعها إلى النصر وأصبرها على الجهد ومنهم أبدال وأوتاد الإسلام. فأسلموا وكتب لهم النبي – صلى الله عليه وسلم – كتابا بمخلاف خارف. ويام. وشاكر. وأهل الهضب. وحقاف الرمل من همدان لمن أسلم. [طبقات ابن سعد 1/257].
يقول المؤرخ العراقي جواد علي: “وورد أن “قيس بن مالك بن سعد بن لأي الأرحبي” قدم على رسول الله وهو بمكة، فعرض رسول الله عليه الإسلام فأسلم، ثم خرج إلى قومه فأسلموا بإسلامه، ثم عاد إلى الرسول فأخبره بإسلامهم، فكتب له عهدًا على قومه “همدان”. وذكر أن رجلًا مر بالرسول، وهو من “أرحب” من “همدان”، اسمه “عبد الله بن قيس ابن أم غزال” فعرض عليه الرسول الإسلام، فأسلم، فلما عاد إلى قومه قتله رجل من “بني زُبَيْد”، وجاء وفد آخر من “همدان” إلى الرسول فأسلم على يديه، وكان فيه “حمزة بن مالك” من “ذي شعار”، وكان على الوفد مقطعات الحبرة مكففة بالديباج، فكتب الرسول لهم كتابًا، وأوصاهم بقومهم من بقية بطون همدان. وورد أن الرسول كتب لـ”قيس بن مالك بن سعد الأرحبي” عهدًا ثبته فيه على قومه “همدان”. [المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام 7/187].