والحال إنه لم يسبق أن أحس كل يمني بفظاعة ضياع الدولة وجنون الميليشيا والسلاح المنفلت ومشاريع الإرهاب والتحشيدات الجهوية ما قبل الوطنية مثل هذه اللحظة. ليس أمام الجميع- وتحديدا عفاش والحوثي والإصلاح وهادي والحراك والسعودية -سوى الدفع باتجاه الحل السياسي؛ الذي يبدأ بتنفيذ القرار 2216 لأنه الوحيد الضامن -مهما فضلت أي قوى تجاوزه والقفز عليه- لمستقبل واضح الملامح، أقل تدهوراً وغموضا، وأكثر إتاحة لتصحيح اخطاء الجميع، باتجاه دولة ضامنة لعدم تمزق المجتمع أكثر أو غرق الدولة بشكل نهائي.
فضلاً عن أنه الخيار الأمثل- وعلى كل المستويات أيضا- مقارنة بأوهام الحل العسكري الذي سيفاقم الأزمات، ويضخم تعاسات غالبية الشعب الذين أنهتكم الحرب وتداعياتها؛ بحيث لن يمكنهم من العودة إلى حياتهم الطبيعية جراء التلهي الحاصل باستمرار إنتاج العنف فقط.
والحال إنه لم يسبق أن أحس كل يمني بفظاعة ضياع الدولة وجنون الميليشيا والسلاح المنفلت ومشاريع الإرهاب والتحشيدات الجهوية ما قبل الوطنية مثل هذه اللحظة.
ولذلك؛ فإنه باستثناء المتعصبين لحماقاتهم، يبقى على الغالبية الشعبية تنظيم صفوفها بمرونة واقعية باتجاه الضغط لفرض الأولويات السياسية على الواقع.
وعلينا بالمقابل أن نتشافى من تناقضاتنا ونفهم طبيعة المرحلة ومقتضياتها بتماسك أخلاقي وقيمي يتجاوز ويهزم منطق الكراهيات المناطقية والمذهبية.
فما دون هذا التغيير في تفكيرنا السياسي والاجتماعي ستنتصر بلا شك اختلالاتنا المنتشرة على مجمل التوازنات التي نأملها؛ بينما لن نتمكن من العيش سويا سواء كنا في الشمال أو في الجنوب!
وبالتأكيد، يكفي مقامرات ورهانات معتوهة تغامر بالناس البسطاء الذين تضررت مصالحهم من كل صنف ونوع وهم بالملايين، كما ينبغي تفادي تصاعد المنطق غير المسئول الذي يفضي إلى استمرار الصراع بما يعني ازدياد الضرر على المدنيين والأبرياء.
فالثابت أن خطوة مفاوضات الكويت على قاعدة المرحلة التوافقية والتزاماتها الكبرى واحترام الشرعية الدولية، هي التي بإمكانها أن تفضي إلى تحقيق الاستقرار عبر اتفاقات مشتركة ناضجة وملزمة للسلام وللإغاثات ومعالجة آثار الصراع بداية بإعادة الإعمار ومكافحة الإرهاب وبناء الاقتصاد وانصاف الضحايا وليس نهاية بمعالجة آثار تطييفات الصراع الحاصلة، وإحداث تصويبات موضوعية فيما تم الاختلاف عليه من رؤى سياسية وذلك عبر مباحثات شفافة بمشاركة ممثل لكل طرف من الأطراف التي شاركت في مؤتمر الحوار الوطني مثلا، على أن تتم الخطوات بإشراف عربي ودولي مباشر وواعٍ ترعاه الأمم المتحدة لكن دون تكرير لأدائها التسويفي الذي اتحفتنا به سابقاً.
ثم إن الزمن تغير والتحديات ثقيلة ومعقدة؛ بينما لن يستطع الجميع تحقيق ما يصبون إليه حربا.
وليعلم الجميع بأنه لا خلاص لأحد من تداعيات الانهيار الرهيب والمرعب. فكلما توحش العقل الرديء قام بالتهام الإرادة الانقاذية.
وكلما استمر كل طرف يمارس العداء ضد نفسه وضد الأطراف الاخرى، سيصبح الألم العبثي والقاسي هو الهوية الوحيدة التي ستجعلنا جميعا نصل إلى ذروة تهلكة كاسحة لن ينجو منها أي طرف على الإطلاق.
وهكذا فإنه بعد كل ما حدث، يبقى لا مجال للمناورة والمداورة. كما على جميع الأطراف إبداء المرونة والنوايا الحقيقية لإيقاف الحرب كبداية للحل الممكن والاضطراري الذي لابد منه لإنقاذ اليمن.
غير أن من أكبر الأخطاء التي لن تغفرها الأجيال القادمة هو استسلامنا الفج للنخب المتصادمة ضيقة الأفق والخيال والبصيرة، في حين قررت أن تمنح الشقاء للحاضر وللمستقبل معا، جراء استمتاعها المخيف بالانتقامات والمكائد والتنصلات والمراوغات؛ مصممة على استدامة عدم ثقتنا بعدم جدوى العنف ما بالكم وأنه قد صار يستغرق ويصطخب في إرهاقنا وإفراغنا من محتوانا الوطني لنصبح جميعا بلا أي معنى مبشر او قيمة تستحق.
من هنا طبعا، كان وما زال علينا أن نتمرد على البروتوكولات غير المقبولة وغير المعقولة لتلك النخب البائسة مهما كانت العواقب، وباعتبار ذلك هو المعيار النوعي والفاعل مستقبلا لخلق تيار شعبي وطني متين وفق رغباتنا ومعاناتنا الجامعة، بل من المهم أن تتردد أصداؤه في كل أرجاء اليمن بما يعيد ثقة اليمنيين بأنهم شعب واحد يتوق إلى تحقيق حلم واحد غايته بعث مشروع الدولة الوطنية الذي افشلته تلك القوى الأنانية العمياء، وبالتالي الدأب على انجاحه للحفاظ على وطن للأجيال القادمة كما ينبغي.
والثابت أن التعويل على زحزحة الأوضاع القديمة للمجتمع يتطلب صنع أوضاع جديدة -تنموية وتنويرية على وجه الخصوص- تحدث تغييرات اجتماعية وفكرية جديدة وفقا للمصلحة الوطنية لا الفئوية، وهذا يتطلب في المقام الأول تحرير الجيش وتحديث الدولة بضمان حقوق وواجبات المواطنة المتساوية.
ومن البدهي القول إن الاستمرار اللئيم في التجريف المناطقي والمذهبي للشعب لا يمكن أن يصنع منه شعبا ديمقراطيا منسجما وله همومه الجامعة وصوته المسموع.
وبالمحصلة، فإن هذا التجريف الممنهج الذي لا أخطر منه، سيظل هو العدو الأكبر للشعب بحيث يفككه ويشوهه أكثر من اللازم، ليتكرس مصيره الوحيد باعتباره ليس شعبا وإنما جماعات مستلبة وممسوخة لا شأن لها سوى الاصطفاف المهين والمذل مع أطراف النفوذ والهيمنة التقليدية، مجبراً تارة، وبلا وعي تارة أخرى للأسف.
أما خيارات الحاضر والمستقبل الفاعلة للشعب وقواه الجديدة فيجب أن تتحدد الآن من مدى إيمان السعودية بضرورة بناء دولة في اليمن أو استمرارها في ذات العقلية التاريخية غير السوية التي ظلت تدعم أدوات تخريب الدولة وإعاقتها عن التحقق، الأمر الذي كاد أن يوصلنا إلى محو كل بارقة امل لنهضة اليمنيين؛ بينما من خلال تلك النهضة فقط يمكن لليمن الاعتزاز بشراكتها الضرورية مع السعودية.
وتاريخياً استمرت السعودية مخطئة، وبلا حكمة وهي تجهض فكرة الدولة في اليمن.
لكن لأسباب عديدة ومتشابكة؛ لا نستطيع أن نتخلص من السعودية. بل سيستمر مصيرنا كدولتين جارتين قائما وممتزجا، ما يتطلب من السعودية وقف الانهيار وتقوية الدولة.
وباعتقادي لا نجاحات مستقبلية للسعودية في اليمن إلا بعدم التعامل عبر مراكز هيمنة ونفوذ دينية أو مشيخية ملحقين بها وإنما عبر الدولة مباشرة.. الدولة التي يجب أن تنهض وتكون أعلى.