من الآن وصاعداً دعونا نفكر أولاً في مستوى العدل والخيرية عندنا، وإثباتها في يومياتنا وسلوكياتنا.. دعونا نكافح لأداء واجباتنا قبل المطالبة بالعائدات والامتيازات والولاءات.
بعث أحد الولاة للخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز يستأذنه في صرف أموال بيت مال المسلمين في ولايته لبناء أسوار وأبراج مراقبة حول الولاية التي تقع في أقصى حدود الخلافة على الطريق الموحش للعصابات المارقة بين الدولة الاسلامية والروم.
كان جواب الخليفة: قم بتحصين ولايتك بالعدل وبذل الخير للقريب والغريب، فذلك خير لك من الأسوار والحصون.
ولقد كان..
صدق الشاب العادل عمر في حكمته وأثبتها بكل جدارة على كل مستويات الخلافة في عصره الراشد.
هذا الموقف هو ما ظل يتردد في الذهن أثناء متابعة فليم (كابتن فيليبس)، الذي يحكي قصة حقيقية حدثت سنة 2009م.
فقد كان القبطان يقود سفينة شحن أمريكية عملاقة عبر الحوض الصومالي حين تعرضت السفينة لهجوم القراصنة الصوماليين.
محاولات كثيرة للخروج بسلام أدت افلات السفينة من الاختطاف، والفدية المطلوبة (10ملايين) دولار، لكن القبطان تم اختطافه وأخذته المجموعة معها إلى الصومال.
خلال حوارات متقطعة بينه وبينهم، يظهر بكل وضوح قوة الحجة للشبان الصوماليين الذين دمرت بلادهم بالحرب والزعماء القبليين والتجويع..
فيليبس يحاول اقناع (موسى) قائد المجموعة بترك ما يفعل والبحث عن خيار آخر للعيش.
يبتسم موسى بمرارة ويجيبه:
– ربما الخيارات موجودة في أمريكا.. اما في الصومال فلا وجود لها.
فالأسماك يتم جرفها من السفن الأجنبية الجشعة من كل سواحلنا، لذا لا صيد.. والمجاعة ضربت كل شيء.. ولا دولة ننتظر منها توقيف وحشية زعماء الحرب الذين يتاجرون بكل شيء في حياتنا.
كان الكابتن في مأزق بين رغبته الشديدة في النجاة وبين تعاطفه مع منطق مختطفيه وخاصة (بلال) الفتى اليافع جريح القدم الحافية.
وكالمعتاد كانت الهنجمة والاستعراض الأمريكي حاضرة بقوة لكنه كان مشهداً ساخراً جدا -في الوقت نفسه- فكل تلك القوة لم تستطع حماية مواطنهم من التعرض للخطر منذ البداية.
عاد “فيليبس” لموطنه بعد اعدام أعضاء المجموعة ميدانياً، واعتقال قائدهم.. نهاية متوقعة ولا تعرف مع من تتعاطف أكثر.. هل مع المدني المرعوب المنهار أم مع شبان فضلوا الموت على الاستسلام لخسارة رزق عائلاتهم الجائعة التي تنتظرهم.
ليس صحيحاً أن تعتذر بالسوء لترتكب السوء، لكن البشر يحتاجون لمسالك مفتوحة لمتابعة حياتهم وتنكيد معيشتهم يفتح أبواب الجحيم على الجميع.
الظلم الذي ترتكبه بحق الآخرين سواء كنت فرد أو دولة لن يظل ظلام واحداً ابداً مهما كانت قوتك وهيلمان قبضتك.
دوماً وأبدا، سيصير الظلم ظلمات ويستحيل إيقاف عواقبه المتمدة كأمواج تسونامي كاسحة عابرة للعصور والقارات.
إن العلاج بردود الأفعال والملاحقات لا فائدة منه وله الكثير من الخسائر بعكس الوقاية ونقاء الحلول العادلة الجذرية.
لا يمكنك أن تلوم زوجتك على قلقها ونكدها وتوترها حين لا تعطيها دلائل فعلية للأمان وأن لها حق ثابت عادل في نفسك وقلبك وعطائك.
وأي غباء يدفعك لطلب الطاعة والاحترام والقرب من أولادك الذين كنت بعيد عنهم أوقات حاجتهم للحديث معك ولتشجعيك ودعمك؟!
لم تكن موجودا معهم هناك، فكيف تطلب وجودهم معك هنا؟
لا يحق لك الاعتراض على انهيار جسدك الكلي بعد كل اهمالك وسوء استخدامك له لسنين طويلة.
جيرانك لن يتغيروا وأنت مغلق للأبواب وتتحاشى مشاركتهم أحزانهم قبل أفراحهم..
ودول وحكومات قامت على المظالم والأطماع، لن تستقر أبداً أبدا، مهما شيدت أجهزة قمعية وسجون وحشية..
ومن تحت يدك في العمل ستقل شكاواهم وتملصاتهم حين يلمسوا أنهم يربحون مع شركتهم كما يخسرون معها.
وتستغرب أن يشكو الناس من عدوانية الجو مؤخراً حرارة وبرودة وجفاف، وكأن لا علاقة لهم بكل الممارسات السيئة التي يرتكبها البشر بجشع ضد الكوكب الأزرق الفائض بالخيرات!
ثم لعلك جربت أحيانا أن الخير يورث أذى وجحود من الناس أو من الظروف، وهذه خبرة خاطئة وسطحية عن سير الحياة.. فالخير متى ما كان متزناً وحازماً ونقيا، كان بوابة للرخاء والجمال الذي لا ريب فيه، وحتى لو تأخرت أزهاره في الوصول إلينا..
من الآن وصاعداً دعونا نفكر أولاً في مستوى العدل والخيرية عندنا، وإثباتها في يومياتنا وسلوكياتنا.. دعونا نكافح لأداء واجباتنا قبل المطالبة بالعائدات والامتيازات والولاءات.
مهمة شاقة، لكن حلاوة الثبات عليها ستمسح كل التعب كما ان الخيرات التي ستعود بها على حياتنا تستحق كل ما سنقدمه.
لقد جربنا حماقات الأسوار قروناً طويلة، فلنعد إلى حصون الرشد لعلنا نلحق ما تبقى لنا.