بعد بلوغ صوتها الذي يوحي بمشروع جديد، ينطلق – بشكل عام – تحت مظلة «أهل البيت» ويسعى لإحياء تراثهم، كان أحسن ما في الثورة الإيرانية بالنسبة للزيود في اليمن أنه يتعارض مع المد الفكري الوهابي القادم من الشمال، محمد عزان
بعد بلوغ صوتها الذي يوحي بمشروع جديد، ينطلق – بشكل عام – تحت مظلة «أهل البيت» ويسعى لإحياء تراثهم، كان أحسن ما في الثورة الإيرانية بالنسبة للزيود في اليمن أنه يتعارض مع المد الفكري الوهابي القادم من الشمال، والذي ضاقوا به ذرعاً، خصوصاً أن مؤسسات الدولة أخذت تتبنى جزء منه تحت تأثير النفوذ السعودي في اليمن.
ولكن التيار المتعاطف مع الثورة الإيرانية كان ضعيفاً ولم يكن له تكتلاً سياسياً أو حتى مؤسسة ثقافية أو دينية يُمكنها من تأسيس علاقة مُعتبرة مع النّظام الجديد الذي لم يتردد في إعلان رغبته في تصدير الثورة إلى الجوار العربي، وذلك مما جعل أبواب النفوذ السياسي الإيراني إلى الجمهور صعباً في بداية الأمر.
ولم تتمكن النُّخب المهاجرة من اليمن – على خلفية ثورة 1962م – من صناعة العلاقة التي كانت الجمهورية الإسلامية الإيرانية تتطلع إليها؛ لأن مركز إقامة تلك النُّخب كان في المملكة العربية السعودية، أو المملكة الاردنية الهاشمية المعروف موقفهما المعارض للسياسات الإيرانية.
وعلى مستوى الداخل اليمني تعرضت سياسة الثورة الإسلامية لحملات هجوم واسعة النطاق من قِبَل المؤسسات الرسمية والإعلام المحلي، حتى صار مجرد التفكير في الانفتاح على إيران جريمة يُعاقب عليها الأمن الوطني.
وعلى الرغم من الصَّد الرسمي استمر الإيرانيون في سعيهم للنفوذ إلى عمق المجتمع اليمني، ولم يكتفوا بما كان متاحاً لهم ولغيرهم من تكوين علاقات قائمة على خَلق حزمة من المنافع المتبادلة مع مراكز قوى سياسية وقبلية، تؤمّن مقداراً كافياً من الحضور السياسي والاقتصادي في الساحة اليمنية؛ لأنهم أرادوا علاقة من نوع آخر، علاقة تعتمد على ايدولوجية دينية تنشأ عنها رؤية سياسية مشتركة، لاسيما وأن ثمة علاقة تاريخية «فكرية وسياسية» بين المجتمع اليمني والإيراني، كما أشرنا في مقالات سابقة.
وبما أنه لا يمكن إغفال الكلام عن الروابط الدينية، إذا ما تحدثنا عن العلاقة السياسية الشعبية مع إيران، فإننا نشير إلى أمرين مهمين:
الأمر الأول: أن اليمن تعتبر أهم معاقل الزيدية – المحسوبين من فرق الشيعة – وهم ضمن من تعتبرهم إيران في دائرة مسؤوليتها، فهي ترى نفسها راعية التشيع في العالم. وبالتالي يرى الإيرانيون أن التواصل مع شيعة اليمن واجب ديني ومسئولية أخلاقية، وليس مجرد تكتيك سياسي عابر.
علما بأن الزيدية – سواء الذين كانوا في إيران أو الذين لا يزالون في اليمن – يختلفون مع الإمامية الاثني عشرية في أهم ركائز مذهبهم في المجال الديني والسياسي، وإن جمعهم عنوان التشيع، وذلك كنظرية الإمامة التي تعتبر محور الوفاق والفراق عند الشيعة الاثني عشرية.
وتلك فُروق جوهرية، غير أن السياسة أحيانا تقتضي تجاهلها والاقتصار على التفكير فيما يجمع الطرفين في الإطار العام، خصوصا عند الاستنفار لمواجهة طرف هنا، والتصدي لطرف هناك.
الأمر الثاني: أن من عقيدة الشيعة الاثني عشرية – التي تقوم عليها الدولة في إيران – أنه سيخرج من اليمن راية تنصر الإمام المهدي المنتظر، وأنها ستكون أهم الرايات وأهداها، فهم يروون عن أبي جعفر الباقر: كلاماً طويلاً يتحدث عن قصة خروج السفياني والخرساني واليماني، وفيه أنه قال: “وليس في الرايات أهدى من راية اليماني، إذا خرج فانهض إليه، فإنّ رايته راية هدىً، ولا يحلُّ لمسلمٍ أن يلتوي عليه، فمن فعل فهو من أهل النّار؛ لأنّه يدعو إلى الحقّ والى طريقٍ مستقيم”.
وهذا أمر مهم وهو يؤكد أن نظرة النظام القائم في إيران للعلاقة باليمن ليست مجرد نظرة سياسية دبلوماسية فحسب، ولكنها نظرة دينية مصيرية توجب عليهم شرعاً – حسب فقههم – تأييد ومناصرة أي ظاهرة تمهد لأمر الموعود الذي ينتظرونه من مئات السنين.
هذا إلى جانب أن التأثير السعودي في اليمن صار محل شكوى كثير من اليمنيين، حتى أن بعض القوى القومية واليسارية، أخذت تشجع النشاط الإيراني علّ ذلك يحد من النفوذ السعودي المتنامي خصوصا على الصعيدين الديني والسياسي.
وزد على ذلك أهمية موقع اليمن؛ سواء بالنسبة للبحار التي يطل عليها، أو قربه من منطقة القرن الإفريقي، أو لكونه البوابة الجنوبية للجزيرة العربية، دع عنك طبيعة تضاريسه، وكثافة سكانه، ووضعهم السياسي المضطرب.
إضافة إلى عوامل أخرى سياسية واقتصادية وأمنية، جعلت الجمهورية الفتية في إيران – رغم انشغالها بالحرب مع العراق ومعرفتها بدخول اليمن المعركة إلى جانب صدام – تفتش بين أنقاض الماضي وركام الحاضر علَّها تجد أثراً يوصلها إلى تكوين علاقة تمكنها من موطئ قدم في اليمن.