إن كانت المعرفة قوةً، فإن لعدم المعرفة أيضاً قوةً تبلغ حد السلطة، وقد مررت في مطلع حياتي بقصة جعلتني أرى اللا معرفة وكيف استحوذت على تسليم العقول بها، وذلك أني وقد كنت طالباً في الثانوي عام 1964 في المعهد العلمي قدمت سؤالاً للإذاعة المدرسية حول أول من كتب الشعر الحر.
ومرت أسابيع من دون أن تبث إجابة عن سؤالي هذا، ولكن جاء الجواب بعد ذلك بأن «لا أحد يعرف جواباً على ذلك السؤال»، هكذا تم بث الرد على سؤالي في إذاعة المعهد، وتبع هذا أننا بعد عودتنا للفصول ودخل علينا أستاذ الأدب وهو شخص عزيز عليّ وعلى الطلاب كلهم، وبادرني بابتسامة تحمل معاني اللوم والعتاب، وقال لي: إن الإذاعة وجهت السؤال إليه، وقد احتار في الأمر وهذا ما سبب تأخير الإجابة، لأنه أرسله لعميد كلية الآداب في الرياض وجاءه الرد بأن هذا سؤال يشبه سؤال من أول شاعر في التاريخ، وهذه أسئلة عبثية تضيع الوقت ولا تحقق أي إجابة، وهذا القول من أستاذي سبب لي حرجاً عظيماً بين زملائي بأن ظهرت عبثياً وأشغلت أستاذي، كما أشغلت كلية الآداب في الرياض.
ولكني بعد أن تخرجت وذهبت للكلية في الرياض حدث أن زرت مكتبةً كبيرة في شارع البطحاء وسط الرياض فلمحت كتاباً بعنوان «قضايا الشعر المعاصر» لنازك الملائكة وحين تصفحت الكتاب وجدته يتحدث عن السبق في كتابة الشعر الحر بينها وبين شاكر السياب، واشتريت الكتاب مباشرةً وهالني أني اكتشفت ما لم يكتشفه أساتذتي خاصة عميد كلية الآداب وسخريته من سؤالي.
وهنا تأسست عندي سلطوية اللا معرفة، حيث إن مقام عميد الكلية كان قوةً تصل لحد التسليم بصدقية قوله بمثل ما تستعمل منطقاً قياسياً يبرر قوة اللا معرفة، حيث استعان العميد بقياس يصدق بسهولة، وهو أن السؤال عن أول من قال الشعر هو سؤال عبثي، وهو قياس عزز سلطوية اسم العميد مع سلطوية القياس التاريخي، وهذه صورة للحيل التي تستخدمها «اللا معرفة» لفرض وجاهتها عبر قوتها وتأثيرها على الأفراد من الطرفين السائل والمسؤول معاً، فالعميد له ثقل معنوي بسبب منصبه كعميد لكلية الآداب، مما يجعله مرجعاً معرفياً ولا يليق بالمرجع المعرفي أن يقول: إنه لا يعلم، ولذا تسلح بالقياس ليعينه على حرجه وتسلح جوابه بقوة المنصب وسيصبح قوله حجةً وجواباً حاسماً، والقصة ليست لفرد محدد، بل هي سلوك ثقافي يتوسل بسلطة المنصب والوجاهة لجعل اللا معرفة قوةً لها شفيع قوي، ومن ثم فهو محصن وحصين.
*نشرت أولاً في صحيفة “الاتحاد” الإماراتية