رحيل الشاعر اليمني عبد العزيز المقالح… قصيدة التفعيلة تخسر أحد رموزها
يمن مونيتور/القدس العربي
كان النبأ صادما وأنا أتلقاه من نقيب الصحافيين اليمنيين الأسبق الكاتب عبدالباري طاهر، في حدود الساعة الواحدة ظهرا بتوقيت صنعاء… فلم أتمالك نفسي فاتصلت مباشرة بابنة عبد العزيز المقالح آمال، لعلي أسمع غير ذلك؛ فإذا بها تؤكد النبأ وهي تبكي!
يا لها من خسارة يُمنى بها اليمن (الجريح) ومعه الوطن العربي برحيل شاعر وأديب بحجم عبد العزيز المقالح، الذي رحل عن الدنيا، يوم الاثنين (الحزين)، عن عمر ناهز 85 سنة قضى جُلها في محراب قصيدة التفعيلة والنقد الحديث، علاوة على تجربته الوطنية في الدفاع عن الجمهورية في بلاده، والتزام موقف نزيه في علاقته بالقضية الوطنية، التي كان من أبرز أعلامها، وفي مقدمة المدافعين عنها منذ تأسيس الجمهورية في ستينيات القرن الماضي.
قلما تجد كاتبا في حياته اليومية يعيش ما يكتبه.. ولعل أبسط وصف يختزل تجربة عبد العزيز المقالح، أن حياته اليومية كانت هي الوجه الآخر لقصائده وكتاباته، لم يجاف يوما قيم الحب والتسامح والسمو، كأنه التعريف الإنساني لكل تلك القيم. من الصعب الإمساك بأطراف تجربة المقالح متعددة الوجوه، وطنياً وشعرياً ونقدياً، ومقاليا وبحثيا وأكاديميا، وإداريا ورائدا وأستاذا لأجيال من المبدعين، إلخ، فهي تجربة تمددت وتنوعت، وكان في كل مجال منها كأنه نسيج وحده، في دلالة على ما كان يتمتع به من إخلاص وتماه في علاقته بمجالات إبداعه وعمله؛ وهو الإخلاص والتماهي الذي تموضع من خلالهما في مكانة رفيعة، خاصة على صعيد علاقته بالشعر، وتحديدا قصيدة التفعيلة الذي كان من أهم شعرائها العرب.
ولد عبدالعزيز في قرية المقالح في محافظة إب/ وسط اليمن عام 1937، كان أبوه صالح المقالح في طليعة ثوار ثورة عام 1948، فنهل منه تلك الروح الثورية، التي ظلّت متوثبة في صدره حتى توفاه الله، وهو ممتلئ قلقا على مصير بلاده. تخرج في دار المعلمين في صنعاء عام 1960، وحصل على الشهادة الجامعية عام 1970، فيما نال شهادة الماجستير في كلية الآداب في جامعة عين شمس عام 1973، ونال الدكتوراه من الجامعة ذاتها عام 1977. ونال درجة (الأستاذية) في جامعة صنعاء أستاذا للأدب والنقد في كلية الآداب عام 1987.
يقول:
أصدقائي اللدودين/ رفقا بحزنيّ / لا تخذلوه/ دعوهُ يسيرُ الهوينا/ ويقرعُ أبواب أفئدةٍ وقلوبٍ/تحجّر إنسانُها/ وتَصخّر إيمانُهُ /لم يعد يتذكّر /من أين جاء؟
رأس جامعة صنعاء خلال الفترة 1982- 2001، وبقي رئيسا لمركز الدراسات والبحوث اليمني والمجمع اللغوي اليمني حتى وفاته. كان عضو المجمع اللغوي في القاهرة ودمشق، وعضو مجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت، وعضو الهيئة الاستشارية لمشروع «كتاب في جريدة». حصل على جائرة (اللوتس) عام 1986، ونال وسام الفنون والآداب من عدن عام 1980، وحصل على جائزة الثقافة العربية من منظمة (اليونسكو) باريس عام 2002، وحصل على وسام الفارس من الدرجة الأولى في الآداب والفنون من الحكومة الفرنسية عام 2003، وجائزة الثقافة العربية من المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الألسكو) عام 2004، كما نال جائزة العويس في الشعر عام 2010.
مرت تجربته الشعرية، التي انطلقت في عقد الستينيات بعدد من المراحل، ظلت تتطور متجاوزا الكلاسيكية إلى رحاب الحداثة في علاقته التقنية والموضوعية بالرؤية الشعرية. تميزت تجربته الشعرية بقدرته على الاستفادة من موروث عربي زاخر، في صوغ الصورة وإنتاج الدلالة، تعبيرا عن حالته وموقفه من الحياة وما يمور فيها، بدءا من وطنه وانتهاء بإنسانيته الكبيرة.. فكانت تجربته متميزة كثيرا في علاقتها الحداثية بقصيدة التفعيلة، التي برز اسما كبيرا في ميدانها، كما تغني ببعض قصائده عدد من أصوات الأغنية اليمنية أمثال أبوبكر سالم وأحمد فتحي وغيرهما. وتمثل بعض قصائده أيقونات تتردد على الألسن.. مثل:
«سنظل نحفر في الجدار/ إما فتحنا ثغرة للنور/ أو متنا على وجه الجدار».
صدر له أكثر من 17 ديوانا منها ديوان «لا بد من صنعاء» عام 1971، «مأرب يتكلم» بالاشتراك مع عبده عثمان عام 1972 و»رسالة إلى سيف بن ذي يزن» عام 1973، و«هوامش يمنية على تغريبة ابن زريق البغدادي « عام 1974، و«عودة وضاح اليمن» عام 1976 و«الكتابة بسيف الثائر علي بن الفضل» عام 1978.. وصولا إلى ديوان «كتاب صنعاء» عام 1999 و«كتاب القرية» عام 2000 و«كتاب الأم» عام 2008 و»« من حدائق طاغور» و«يوتوبيا وقصائد للشمس والمطر» عام 2019.
كما صدر له أكثر من 25 كتابا، ضمت عددا من الدراسات الأدبية والفكرية منها: «قراءة في الأدب اليمني المعاصر» و«شعر العامية في اليمن» و»الأبعاد الموضوعية والفنية لحركة الشعر المعاصر في اليمن»
و«يوميات يمانية في الأدب والفن» و«الشعر بين الرؤية والتشكيل»، و«أصوات من الزمن الجديد» و«ثرثرات في شتاء الأدب العربي» و«عبدالناصر واليمن فصول من تاريخ الثورة اليمنية» و«أوليات النقد الأدبي في اليمن». وتناول شعره عديد من الدراسات لا يتسع المكان هنا لذكرها بما فيها رسائل وأطروحات دراسات عليا.
طوال حياته لم ينقطع عن القراءة، بل كانت الفعل الذي لا ينشغل عنه بشيء في معظم أوقات يومه، خاصة في المساء، وحتى في أوقات فراغه في عمله المكتبي رئيسا لمركز الدراسات والبحوث اليمني في صنعاء، إذ تجده في مكتبة المركز، أما مكتبه فكان مفتوحا لكل الزائرين، وكان بذلك المسؤول الحكومي اليمني الوحيد الذي يُبقي باب مكتبه مفتوحا لمن يعرفهم ومَن لا يعرفهم، ملتزما تواضعا، في خدمة كل من يقصده بمن فيهم طلاب الدراسات العليا.
يقول:
سبحان الله!/ لقد أعطاني الشعرَ/ على طبقٍ مكتظٍ/بحليب الساعاتِ الأولى
/ من عمرِ الجسدِ الهش/ وبصّرني كيف أرى في وجهِ/ سماءِ الدنيا/ لغة وقصائدَ/ علّمني أن لا أقرأَ بالعين/ ولكن بالقلب/ وأن أتحسَّس آلامَ الأرض
/ وأحزانَ البحر/ بوجدانٍ صافٍ/ خالٍ من إغواءِ الجسد/ الفتان.
على مدى حياته التزم الكتابة بالقلم، وكان موعده مع الكتابة في الصباح الباكر، واعتاد أن ينهض باكرا كل يوم.. مصافحا صنعاء مع إشراقة الشمس الأولى؛ وهي المدينة التي أحبها وأحبته والتزم البقاء فيها حتى توفاه الله. اعتياده على الكتابة بالقلم تسبب له بمشاكل في العمود الفقري ظلت تتضاعف إلى أن أفقدته القدرة على الحركة في السنوات الأخيرة.. وقد كان لوفاة زوجته وما أصاب بلاده من احتراب تأثير سلبي في تسريع تدهور حالته الصحية. حتى بعد أن صار مقعدا بعيدا عنهم، ظل صالونه الأدبي مفتوحا في منزله يرتاده الأدباء أسبوعيا، خاصة الأحد والأربعاء؛ وهو الصالون الذي تحتفظ ذاكرته بنقاشات ضمت عددا كبيرا من الأدباء العرب، أبرزهم أدونيس ومحمود درويش وأحمد عبدالمعطي حجازي وكمال أبو أديب وصلاح فضل وغيرهم الكثير من أعلام اليمن.
يقول في إحدى قصائده:
كنت أدري بأنّ الطريق إلى الله/ أقرب مني إليّ/وأبوابهُ لم تكن فقطّ موصدة
أو محوّطة بالمتاريس/إن السماء الرؤومة/ مفتوحةٌ للمنيبين والشاردين/
ولكنه جسدي المتمردُ/هذا الحصان الجموح/الذي حال بيني وبين الطريق
/وحمّلني وزر أهوائهِ/ وخطيئاتِهِ.
كان إنسانا بكامل لياقته الأخلاقية، متمتعا بسمات المبدع، الذي يفيض تسامحا وتعاطفا، ملتزما القيم العليا في علاقته بكل من حوله، بما فيها الأفكار والقضايا، ولهذا تجرع في سبيل مواقفه متاعب كثيرة، ليس أولها مطالبته من قبل نظام السادات بمغادرة مصر عاجلا في السبعينيات عقب توقيع اتفاقية كامب ديفيد.. كما لم يكن تهديده في صنعاء إزاء كتاباته خلال الحرب الراهنة آخرها، بل تعرض خلال حياته لموجه من التكفير كادت أن تودي بحياته من قبل إحدى جماعات الإسلام السياسي.
تمثل تجربة عبد العزيز المقالح مدرسة في علاقتها بالمجتمع والقضية؛ فكان صادقا مخلصا، بدءا من علاقاته بأصدقائه، ومرورا بالمجتمع، وانتهاء بالقضية الوطنية، إذ كان اليمن (الدولة المدنية) حلمه وناصية موقفه، وهو ما عبّر عنه في مراحل حياته الوطنية والإبداعية، سواء في كتاباته البحثية والمقالية ذات العلاقة بالثورة والجمهورية، أو في كتاباته الشعرية ذات العلاقة بالقيم والمواقف الملتزمة قضية الوطن الحر، أو في علاقته بالتعليم الأكاديمي أستاذاً للأدب والنقد في جامعة صنعاء.
رأس عبد العزيز المقالح جامعة صنعاء لنحو عقدين شهدت خلالها هذه الجامعة أزهي مراحلها، إذ احتضن فيها عددا كبيرا من أهم الأساتذة العرب، وشهدت الجامعة تطورا وتوسعا تحققت فيه على مستوى الوطن العربي والعالم.
خلال دقائق من إعلان نبأ الرحيل غصت منصات التواصل الاجتماعي في اليمن بالنعي والتعازي في إشارة إلى ما كان يمثله الراحل في حياته كمدرسة لأجيال من المبدعين اليمنيين، الذين مثلت تجربته وقصيدته ومواقفه بالنسبة لهم مدرسة، كما ستظل منهلا لأجيال قادمة، انطلاقا من خصوصية التجربة بما فيها التجربة الشعرية والنقدية تحت مظلة تجربته الإنسانية كخلاصة المبدع الحقيقي!
نعاه اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين معتبرا رحيله خسارة كبيرة لليمن والوطن العربي والعالم، منوها «بتجربة الفقيد النضالية في خدمة الثورة والجمهورية والوحدة والدفاع عنها من خلال التزام موقف نزيه في سياق علاقته الوثيقة بالقضية الوطنية»، مشيرا إلى «ما تمتعت به قصيدته الحديثة ومقاله الرصين ودراساته المختلفة وكتبه المتعددة من سمات عززت من مكانته وكرست حضوره الإبداعي والوطني والإنساني، اسما كبيرا وعلما عظيما من أعلام القصيدة العربية».
كما نعاه أدباء كثر منهم الروائي سمير عبدالفتاح الذي قال: «كلمات الرثاء والحزن كثيرة، وربما نحتاج للكثير منها هنا لنتخفف من ثقل هذا اليوم، لكن حتى هذا نحن بحاجة (للراحل) ليرشدنا – كما يفعل دوما – ويربت على رؤوسنا وهو يقول كم نحن جديرين بأنفسنا وبما نكتبه.. لهذا تبدو الكلمات هنا خافتة، وتحتاج إليه ليشجعنا على إكمالها».
فيما قال الروائي علي المقري «يومٌ حزين في تاريخ اليمن، حيث فقد هذا البلد المثخن بجراح الحروب أحد أبرز أدبائه في القرن العشرين، عبد العزيز المقالح الذي كان أثره على الحياة الأدبية والثقافية في اليمن لا مثيل له؛ نفقد بوفاته المعلّم والمحفّز على الكتابة، نفقد حنان الأب وتسامحه على مشاكساتنا الدائمة».
وكان الشاعر عبدالعزيز المقالح قد نعى نفسه قبل وفاته في إحدى قصائده:
دَثريني/ وشدي على كفني/ واكتبي فوق قبري/ هنا واحدٌ مِن ضحايا الحروب التي عافها/ ثم قال لقادتها قبل أن يبدؤوها/ الحروبُ إذا دَخَلت قرية/ أَكَلَتْ أهلَها الطيبين/ ولم تُبْقِ مِن حَجرٍ واقفٍ/ أو شَجرْ.