لم تبدأ الأزمة اليمنية منذ 2011م، وليست أيضاً مع دخول الحوثيين صنعاء 2014م، ولا لتدخل التحالف العربي لدعم الشرعية في اليمن عام 2015م، يمكن فقط القول إن الحُمى التي بدأت بفعل فشل إدارة البلاد خلال السنوات جعلت تلك الأعوام مراحل جديدة للأزمة في البلاد.
لم تبدأ الأزمة اليمنية منذ 2011م، وليست أيضاً مع دخول الحوثيين صنعاء 2014م، ولا لتدخل التحالف العربي لدعم الشرعية في اليمن عام 2015م، يمكن فقط القول إن الحُمى التي بدأت بفعل فشل إدارة البلاد خلال السنوات جعلت تلك الأعوام مراحل جديدة للأزمة في البلاد.
تشريح الثورة The Anatomy of Revolution كتاب للمؤرخ الأمريكي كران برينتون الذي قرأ أربع ثورات “الأمريكية والفرنسية والثورة الإنجليزية سنة 1640 والثورة الروسية سنة 1917.” ويدور الكتاب حول أربع مراحل تمر بها الثورات مع كونها ليست إجبارية إلا أن ثورات الربيع العربي تمر بها واليمن واحده منها، هذا الكتاب كان مصدر إلهام المستشارين لـ”جيمي كارتر” للأمن القومي أثناء الثورة الإيرانية.
المراحل الأربع: الأولى “المرحلة التمهيدية للثورة”، الثانية “حدوث الثورة نفسها”، الثالثة، “مرحلة الأزمة”، الرابعة “مرحلة الخلاص”.
بدأت الأزمة السياسية في اليمن عندما قرر “صالح” العدول عن قراره بعدم ترشحه لرئاسة البلاد عام 2006م، منذ ذلك العام اشتدت وطأة الحديث عن التوريث لأجل نجله أحمد الذي عينه قائداً لقوات النخبة في الجيش، 2003م كان بداية كبيرة لأزمة تشريعية عندما قسم “جزب صالح” الدوائر الانتخابية بما يتناسب مع مؤيديه، علاوة على التزوير الكبير الذي حدث، الأزمة العسكرية بدأت عندما ترقى نجله أحمد سريعاً وفي عمر (28 عاماً) برتبه عميد ويقود قوات الحرس الجمهوري (1999-2012) والقوات الخاصة (2004) وأبعد تلك الوحدات عن قوات الجيش اليمني لتصبح تحت إدارته وحده وهي الأقوى تسليحاً عن باقي وحدات الجيش الأخرى.
خلال تلك المرحلة التي امتدت قرابة 10 أعوام، فرضت الحكومة قيود اقتصادية على الطبقة الوسطى، تفاقم الصراع السياسي، بإستثار “صالح” بالسلطة وبمؤسسات الدولة الثلاث، عمّ السخط الشديد لدى هذه الطبقة، واستخدم “صالح” الحروب الست ضد الحوثيين لمواجهة المعارضة السياسية التي تشتد، وتبرير رفضه الإصلاحات وتأكيده الحاجة إلى القيود الاقتصادية لأن الدولة في حالة حرب “كعادة الطغاة يستخدمون الحرب لأجل البقاء”، كانت الحكومة غير كفؤة على نحو لا يصدق. وانهارت البيروقراطية، ولم تتمكن الحكومة من إدارة البلاد، العملة متدهورة، وجرى رفع الدعم عن أغلب المواد الغذائية، كانت الشوارع تعّوم بالتكسير والسخط كانت مظاهرات 2004م راسخة في الذهن التي تحولت إلى شغب بسبب الجرعة السعرية، وأصبح صالح مثل ملك إنجلترا الأخرق جورج الثالث مع معاناة مالية مزمنة لدى الحكومة. بدأ حزب صالح يعاني من تخلي المثقفين الذين يعتبرون ضمير المجتمع.
انهارت الدولة مالياً، زادت الاحتجاجات في الشوارع ضد السلطة الحاكمة، وحتى اتفاق فبراير 2010م، كانت الدولة تموجّ بحراك متلاحق، عنيف، سلمي، سخط، شغب، كانت تلك بداية دخول الثورة اليمنية إلى المرحلة الثانية، كان أولى الأحداث المثيرة يوم 3 فبراير 2011 عندما خرجت المعارضة مع الشارع بالشعارات الوردية “الهبة الشعبية”، وعقبها جاء الحدث الأكثر إثارة، “اعتصامات في كل محافظات الجمهورية”، ارتفعت لوحة ضخمة وسط ساحة التغيير بصنعاء تحمل مطالب الثورة، أولها إسقاط السلطة، وفق مبادرة خليجية -نوفمبر2011م، وصلت حكومة المعتدلين إلى السلطة، حكومة “باسندوة”، كانت هذه الحكومة الوطنية والكفؤة تعمل بجّد من أجل تحقيق أهداف الثورة الاقتصادية والسياسية، لا يعتقد أن حكومة بهذا الانسجام والإخلاص عملت من قبل، رغم التجريف والتشويه العامل من قبل نظام سقط حديثاً، عاشت اليمن معها مدة ليست بالقليلة من “شهر العسل” انتخب رئيس جديد، وبدأت العملة اليمنية تستقر، يصف برينتن هذه المرحلة بـ”الحمى الصاعدة” والمتمثلة في تصاعد سخط الطبقة الوسطى، حيث يثور الشعب إذاك وتتوج ثورته بمعركة مثل اجتياح الباستيل أو معركتي لكسنجتن وكونكورد وينهار الهيكل الحكومي تحت ضغط الديون المالية والانتفاضة الشعبية، ثم يشكل المعتدلون أو الوسط السياسي حكومة جديدة.
غير أن الحكومة المعتدلة الجديدة تظهر أنها غير قادرة على الصمود في وجه مشاكل إدارة الدولة والأزمة الاقتصادية ووضع دستور جديد، وتنفيذ مطالب الثوار الجدد والقدامى، مع تحرك جماعة مسلحة من شمال الشمال بالتحالف مع قوات صالح، وبدأت قوات النخبة في الجيش تتمرد على الأوامر وهيبة الدولة تسقط، كانت الواضحة الجلية “التحكيم” برؤوس أثوار للحوثيين في “ابريل 2014م” بالرغم من قتلهم جنود في النقطة الأمنية على مدخل عمران شمالاً، بعد أن هجروا سكان دماج -10 آلاف مواطن- في يناير 2014م، وجرى اختطاف “بن مبارك” والدستور، وعندما استشهد القشيبي دفاعاً عن الدولة كان الطريق مفتوحاً لتسقط كل المعسكرات من عمران حتى عدن.
اجتاح الحوثيون صنعاء في سبتمبر 2014م، بدأت المرحلة الثالثة للثورة، تولوا السلطة وأزاحوا المعتدلين باتفاق السلم والشراكة، عزلوا الرئيس وحاصروا الحكومة، وبدأت شرارات الحرب الأهلية، في أكثر من بلدة يمنية، البيضاء، أرحب، تعز، مأرب، الجوف، تشتد وطأة بالرغم من انكسار النفسيات بسبب تخاذل السلطة، بدأ المجتمع يخشى من الحوثيين الذين سيطروا على العاصمة، بشكل سريع فرّ الرئيس اليمني إلى عدن، فبراير 2015م، لاحقه الحوثيون والمواجهات تخفت وترتفع من قرية إلى مدينة إلى الساحل إلى الجبل إلى الوادي، هدد الحوثيون الرياض بمناورات عسكرية على الحدود، صرح الإيرانيون أعداء العرب القدامى بأن بيديهم أربع عواصم عربية “صنعاء -بغداد -بيروت- دمشق” أثار غضب الجيران الخليجيين، شحنات الأسلحة من طهران تصل للحوثيين في صنعاء والخبراء العسكريين من إيران والضاحية الجنوبية في لبنان كانوا فعلاً وسط اليمن.
يقول برينتن: “في هذه المرحلة تبلغ الثورة الذروة عندما يصبح المعتدلون عاجزين عن أداء مهمة حكم البلاد، ويطوح بهم المتطرفون أو اليسار السياسي بالقوة، ويبدأ حكم الإرهاب حيث يشرع المسرفون في التطرف بالتخلص من المعارضة باستخدام العنف، كما تتعرض الحكومة الجديدة عادة في حرب خارجية في محاولتها نشر مبادئ الثورة”.
كما بدأت الثورة بفقد زخمها ولا يعد الشعب يساندها إلا خوفاً من التطهير الحوثي وأصبح الشعب يساند ثورة المتطرفين الجديدة “سبتمبر 2014″، كما أنه بسبب تفاقم الأزمة الاقتصادية يواجه الثوريون الجدد تهديداً داخلياً متزايداً.
كانت طموحات الحوثيين بافتعال المشاكل كبيرة، صرح وقتها “محمد البخيتي” إن حدود اليمن إلى “الركن اليماني” في مكة المكرمة!، الإيرانيون منذ ذلك الوقت يهددون الخليجيين بأنهم يحدّون السكين اليمني لذبحهم.
على وقع الحرب الأهلية تدخل التحالف العربي في مارس/ آذار 2015م، فجلب الحوثيون لإنقاذ الدولة اليمنية من الانهيار المؤثر، وتبدأ معها مرحلة الخلاص “الرابعة”، وبالتداخل مع المرحلة الثالثة تبدأ العودة البطيئة غير المنتظمة إلى أزمنة تتسم بهدوء أكثر، وتبدأ الدولة اليمنية في البحث عن رجل الدولة المنشود لإقامتها من جديد، ويعتقد برينتن إن هذه المرحلة من الثورة قد تعود بالنظام يشبه القديم عندما يشرع في عملية إعادة الاستقرار إلى البلاد، مع تزايد الحاجة لنسيان “الثورة” التي تظهر كأنها نقيض للاستقرار.
يحصل المعتدلون على العفو، ويقمع المتطرفين ويتم اعدام الأكثر عنفاً وتنشأ بعض الأفكار الجديدة ويتحول هيكل القوة قليلاً وتطبق بعض الإصلاحات ويمحى أسوأ ما في النظام القديم غير أن الوضع القائم يصبح مشابهاً للوضع في فترة ما قبل الثورة وتشرع الطبقة الحاكمة مرة أخرى بمسك القوة.
لكن هذا ليس مقياساً للثورات فالثورات التي درسها برينتن الأربع نجحت وإن اختلفت المدة حتى وصلت إلى الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية. وما قطعته تلك الثورات في عشرات السنوات تقطعه اليمن في أعوام قليلة. ومع بقاء العمليات وسحب سلاح الحوثيين وتحقيق عدالة مجتمعية سيخضع الأكثر إجراماً للعقاب من الشعب، عدا ذلك سنظل نموج في تلك الحلقة المفرغة.