اليمن.. هذا البلد المعلوم!
عز الدين سعيد الأصبحي
خلال سبع سنوات مضت حاول الحوثيون إنهاء أي مظاهر لاحتفاء اليمنيين بثورة ٢٦ سبتمبر، وهى الثورة التي قام بها الشعب اليمنى عام ١٩٦٢ واطاح بالحكم الإمامي الفردي، وثورة ١٤ أكتوبر ١٩٦٣ وهى الثورة التي اندلعت ضد الاحتلال البريطاني. الأولى فى شمال اليمن والثانية في جنوبه.
وخلال ستين عاما اعتبر اليمنيون هذه الثورات من مقدساتهم الوطنية، فهي من عمل على فك حصار العزلة عن الشعب وحققت شعار إلغاء الامتيازات بين الطبقات. وقبل ستين عاما كانت صنعاء تحكم بنظام إمامي صارم يعمل بقوانين تمييزية تحدد طبقات الشعب، وعلاقاتهم الاجتماعية بناء على ما يسمى الأصول الأسرية والانتماءات المذهبية، لذا بقى اليمن لعقود بلدا معزولا ومنسيا رغم تاريخه وثروته. حتى أن الكاتب الراحل أنيس منصور كتب كتابا في ستينيات القرن العشرين عده معظم أهل اليمن مسيئا لهم هو كتاب (اليمن ذلك المجهول).
وعودة لواقع اليوم الأكثر إساءة وألما، ويوجد صداما حقيقيا داخل مجتمع صنعاء الآن، في ظل سيطرة ميليشيات الحوثي عليها منذ ٢١ سبتمبر ٢٠١٤، فإن الميليشيا تريد إعادة هندسة المجتمع على تلك النظرة، وتريد إعادة اليمن مجهولا أكثر من ذى قبل. ولكن صُعق الحوثيون من ردة فعل المجتمع، حيث جاء ما يمكن أن نقول عنه انفجار بركان مشاعر عفوية احتفاء بثورة ٢٦ سبتمبر ١٩٦٢,١٤ أكتوبر ١٩٦٣ بعد سبع سنوات وعمل دؤوب لمحو ذاكرة اليمنيين.
ورأينا أجيالا جديدة دون العشرين يرفعون شعارات ثورة ٢٦ سبتمبر، وكلما ظهر غضب ميليشيات الحوثي وامتعاض مناصريها من ذكر ٢٦ سبتمبر بالغ الشارع اليمنى برفع علم الجمهورية اليمنية والوحدة وتمسك بها. وذاك هو رد الفعل الطبيعي على حالة القمع الممنهجة الذي تعيشه المحافظات المسيطر عليها من قبل الحوثي، وحالة القلق العجيب في المحافظات الأخرى التي تناوئ الحوثيين.
الناس وحدهم قرروا إيقاظ الذاكرة الجمعية بمجرد رفع علم وتعميم أناشيد وأغان عمرها عقود، لكنها صنعت وحدة شعب يحافظون عليها وأعادت لهم الأمل بدولة يتوقون إليها. وصُعقت ميليشيات الحوثي من مظاهر الاحتفاء الشعبي الذي شكل استفتاء تلقائيا على رفض قبضتها، وعلى أي توجه للتقسيم. فعمدت ميليشيا الحوثي إلى إيجاد رد فعل أرادته أكثر بهرجة وهو الرمي بورقة دينية لتزيد من تشظي المجتمع، وهي ورقة الاحتفاء بالمولد النبوي الشريف، وكأنه يمثلها في مواجهة رفض الناس لها. حيث عمدت إلى ترويج أكبر دعاية يمكن تخيلها من ابتداع رايات خضراء في كل مكان، أين منها إعلام معمر القذافي ومجد الكتاب الاخضر، وعممت بالقوة المفرطة على كل يمنى فى أماكن سيطرتها لبس الأخضر أو رفع خرقة خضراء، ومن لم يعمل ذلك يعد كارها للنبي الكريم.
وتمت ملاحقة الناس في محالهم وأماكن عملهم، وبثت العيون في كل زقاق للرفع بمن خالف الأوامر، وسموا كل من تأخر برفع الراية الخضراء ودفع الجزية الموجبة للاحتفال المنافقين، وتم علنا تقسيم المجتمع إلى صنفين من لبس الأخضر هو مع النبي ومن لم يلبس هو ضد النبي، هكذا! وليس ضد الميليشيات.
وعممت وسائل الإعلام التابعة للحوثي بكل الأنواع والأساليب الممكنة أن الحوثي هو (القرآن الناطق)، وعدم طاعته كفر، ومن مظاهر الكفر رفع أي شعار للجمهورية وعلم الوحدة.
اندفع الحوثي نحو حملته في حرب الشعارات وإلباسها لباسا دينيا حد الجنون المطلق. عمد إلى تناسى أن الدين المعاملة وسلوك وليس شعارا، وأن النسب والحسب أخلاق! عمد إلى تكريس ظلام العقل في قرن التكنولوجيا وإشعال الإضاءة الباذخة الخضراء في كل مكان والشعب يقبع فى الظلام، وصعق اليمنيون على تكريس حالة سفه مجنونة بشوارع صنعاء، الناس تطلى اجسادها بالطلاء الأخضر وتلبس أخضر وتنفخ أوداجها بالقات الأخضر، وتدخل فى صرخة غيبوبة، وكأننا في فيلم هزلي عن الزومبى بآخر الزمان، وانبعاث الرجل الأخضر.
ليس هناك أكثر إساءة للنبي مما حدث ادعاء بإعلان الحب له، وليس هناك تحريض ضد كل من ينتسب لآل النبي أكثر مما يفعله هؤلاء. وظهر غلو الحركة الحوثية وتطرفها الذي تجاوز كل اساليب داعش، وجعل حكم طالبان يبدو متقدما! وعاد اليمن فى لحظة ليكون ذلك المجهول المحاط بالعزلة والخوف، وأصبح مجرد أن يجهر المرء بانتمائه لليمن الواحد الكبير نضالا لا يخلو من مخاطرة! هذه الموجة من الغلو التي تُكّرس التخلف وتصنع التمزق هي التحدي الأكبر أمام استعادة اليمن. نعم لم تعد المعركة مجرد استعادة مؤسسات الدولة الشرعية في هذا البلد الكبير والعريق، بل صارت معركة حفاظ على الهوية ودفاع عن كرامة ونضال من أجل استعادة العقل والمنطق وإنهاء عزلة مخيفة تريد العودة به عقودا للوراء. وإلى ما قيل عنه في لحظة جنون إنه اليمن ذلك المجهول! وهو البلد المعلوم مهما يبدو واقعه صعبا الآن.
المصدر: الأهرام