بمناسبة جرائم الابتزاز التي تتكرر في مجتمعاتنا العربية، والتي تعود في أحد أسبابها إلى اختلال المنظور الأخلاقي عندنا، وما ينتج عن ذلك من تضخيم لقضايا هي أهون بكثير مما هي في حقيقتها لو أعدنا ضبط المنظور الأخلاقي كما صوره الدين، في هذا المقال سأسلط يسلط على المنظور الأخلاقي الإسلامي في النظر إلى البغي والإثم، وكيف تعامل معهما.
هذا المنظور يعيد التوازن في النظر لكل ما يصدر من الإنسان من ذنب أو إثم أو منكر أو خطأ أو بغي أو عدوان، بعيداً عن حمولة التأثير السلبي للعادات الاجتماعية، والتي لبست لبوس الدين بتواطؤ من المشتغلين على الخطاب الديني أحياناً، وبخوف من مخالفة المجتمع أحياناً أخرى.
في المقال سأستشهد بأقوال السابقين حتى لا تأتي تلك التهمة الجاهزة أنكم تقولون هذه الآراء تحت ضغط اللحظة الثقافية المعاصرة، التي يتبناها الغرب، فتأتي تلك النقولات القديمة لفقهاء لم يعيشوا ضغط هذه اللحظة، فكتبوا تلك الفروق وذلك المنظور، ولكنه لم يأخذ حظه في الخطاب الديني فتلاشى.
للإسلام فلسفة خاصة تجاه أنواع المعاصي من الذنوب والمنكرات والآثام والبغي والعدوان التي قد يقع فيها المسلم، يدرك ذلك من تأمل مقاصد التشريع للأحكام وللعقوبات.
ما الفرق بين تلك المصطلحات؟ وما الذي يبنى على تلك الفروق؟
في سورة الأعراف نجد آية تحصر المحرمات بأداة الحصر “إنما” في خمسة أشياء، فتخاطب النبي عليه السلام: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾، وهذه الآية جمعت أصول المحرمات في القرآن الكريم، فابتدأت بالفواحش ثم الإثم ثم البغي ثم الشرك ثم القول على الله. وآية أخرى قيل عنها: “إنها أجمع آية في القرآن”، وقيل إنها: “أجمع آية لمعاني الإسلام”، يقول تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ (النحل: 90)، وهذه الآية ذكرت ثلاثة مصطلحات هي: الفحشاء والمنكر والبغي.
فما هو الفرق بين الفاحشة والإثم والمنكر والبغي؟ وما هو ميزان كل واحدة في المنظور الأخلاقي الإسلامي؟
في الفرق بين الفواحش والإثم يذكر فخر الدين الرازي في تفسيره عدة أوجه لعل أقربها، أن الفاحشة خاصة بالزنا، والإثم خاص بالخمر، وأما البغي فلا يستعمل إلا في الإقدام على الغير نفساً أو مالاً أو عرضاً.
ويذهب الشيخ محمد أبو زهرة في تفسيره إلى تعريفات أدق: “فالإثم ذنب لَا يتجاوز أذاه فاعله، فهو يبطئه عن فعل الخير، وآثامه على نفسه كشرب الخمر، وتناول الآفات التي تضر نفسه، ولا تتعدى إلى غيره..، والبغي هو المعصية التي تتعدى إلى غيره.. فهو الاعتداء على الناس، والتجبر والاستعلاء عليهم، وأن يمنعهم حقوقهم ويأخذها بغير حق. ومن البغي أكل أموال الناس بالباطل في الربا، والرشوة والسحت، ومن البغي أكل مال اليتيم.. ومن أفحش البغي ظلم الحكام للرعية والغلظة عليها، وإرهاقها، وإيذاؤها في حرياتها”.
ثم يذكر أن البغي أثر من آثار الوهم عند الإنسان، بأنه من صنف أعلى من غيره، فيغالي في الاستهانة بهم، ويبغي عليهم في حقوقهم، ويبخسهم حقهم.
يقول البيضاوي في البغي ما نصه: ” والاستيلاء على الناس والتجبر عليهم، فإنها الشيطنة التي بمقتضى القوة الوهمية، ولا يوجد في الإنسان شر إلا وهو مندمج في هذه الأقسام صادر بتوسط إحدى هذه القوى الثلاث (أي الشهوة أو الغضبية أو الوهمية)”.
إذن لدينا تفريق بين ثلاثة مصطلحات، فالفاحشة خاصة بالزنا، والإثم خاص بالخمر ويدخل معه أكل لحم الخنزير والميتة، والبغي وهو الاعتداء على الغير نفساً أو مالاً أو عرضاً، والمنكر هو ما تنكره العقول السليمة، بمعنى ثان: الإثم هو الخطايا والمعاصي والذنوب التي يرتكبها الناس في حق الله، والبغي هو الاعتداء على الناس في أموالهم ودمائهم وأعراضهم.
أو بمعنى ثالث: الإثم هو الخطايا والمعاصي التي يرتكبها العباد ويقعون فيها بما تدعوه إليهم شهواتهم، سواء شهوة الفرج كالفاحشة، أو شهوة البطن كالخمر والخنزير. بينما البغي هو الجريمة التي تقع بحق الآخرين أفراداً أو مجتمعاً بما يدعوهم إليه الوهم والاستعلاء والتجبر فيستهين بالآخرين ويبخسهم حقهم.
“أما المنكر فهو ما تضافرت العقول الإنسانية على إنكاره وقبحه، وهو مناقض للفطرة الإنسانية. وهو يقابل المعروف وهو الأمر الذي تعارفته العقول ولم تختلف فيه الأفهام؛ وهو الذي يكون متفقا مع الفطرة الإنسانية التي لَا تختلف في الناس. والعقول من بدء الخليقة تضافرت على أمور أقرتها، وعلى أخرى أنكرتها، فلم تختلف العقول في مدح الصدق والعدل والحياء والعفة، ولم تختلف العقول في استنكار الظلم والكذب والفجور والاعتداء بكل ضروبه”.
وهذا المعنى يذهب بنا إلى أن ما نعتبره ذنبا أو معصية مما هو في دائرة التدين الخاصة بكل مذهب أو دين لا يدخل ضمن المنكر، لأنه غير متفق عليه في المجتمع المتنوع دينياً أو مذهبياً، وإن اعتبرناه في داخل المذهب أو الدين ذنباً أو معصية في حق الله.
وفي الفرق بين البغي والعدوان يقول رشيد رضا: “إن الغالب في استعمال البغي أن يكون في حقوق العباد والاستطالة عليهم، وأنه إذا قرن بالعدوان كان البغي ظلمهم بمحرم الجنس كالسرقة والكذب والبهت والابتداء بالأذى، والعدوان تعدي الحق في استيفائه إلى أكبر منه”. إذن فكلاهما يحمل نفس المعنى، إلا إن اجتمعا فإنهما يكونان مستويان في درجة انتهاك حقوق الإنسان.
هكذا صارت لدينا حدود شبه واضحة لأربعة مصطلحات، هي الفحشاء والإثم ومصدرهما قوة الشهوة، والمنكر ومصدر القوة الغضبية، والبغي والعدوان ومصدره القوة الوهمية.
يشير ابن تيمية لخطورة البغي والظلم في هدم المجتمعات والدول، فيرى أن العدل هو أساس استقامتها حتى مع وجود الإثم، أما وجود الظلم والبغي مع عدم وجود الإثم فإنها لن تستقيم، يقول ابن تيمية: “وأمور الناس تستقيم في الدنيا مع العدل الذي فيه الاشتراك في أنواع الإثم، أكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق وإن لم تشترك في إثم، ولهذا قيل: إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة. ويقال: الدنيا تدوم مع العدل والكفر، ولا تدوم مع الظلم والإسلام.. والعدل نظام كل شيء، فإذا أقيم أمر الدنيا بعدل قامت وإن لم يكن لصاحبها في الآخرة من خلاق، ومتى لم تقم بعدل لم تقم وإن كان لصاحبها من الإيمان ما يجزى به في الآخرة”.
كان هذا حديثًا عن الفوارق بين تلك المصطلحات، الفواحش والإثم والمنكر والبغي والعدوان، ولكن ما الذي يمكن أن يبنى على اختلاف أنواع الذنوب والأخطاء والجرائم الصادرة من الإنسان؟
ينقل الماوردي في تفسيره نصًا عن بعض السلف أنه قال: “إذا كان ذنب المرء من قبل الشهوة فارْجُه، وإذا كان من قبل الكبر فلا ترْجه، لأن إبليس كان ذنبه من قبل الكبر فلم تقبل توبته، وكان ذنب آدم من قبل الشهوة فتاب الله عليه. وقد أشار بعض الشعراء إلى هذا المعنى فقال:
“إذا ما الفتى طاح في غيّه … فَرَجِّ الفتى للتُّقى رَجّه”
“فقد يغلط الركب نهج الط … ريق ثم يعود إلى نهجه”
بين أيدينا نص مهم، يرى أن صاحب ذنب الشهوة في منظوره يختلف عن صاحب ذنب الكبر، فيفتح الباب للأول لأن بداخله شهوة تقهره، وعلى هذا الأساس كان خطأ آدم أهون من خطأ إبليس.
هذا المنظور في التفريق بين خطأ آدم وخطأ إبليس سيرصده ابن القيم من زاوية أخرى فيقول: “أن ذنب ارتكاب النهي مصدره في الغالب الشهوة والحاجة، وذنب ترك الأمر مصدره في الغالب الكبر والعزة”.
وتأمل معي في تفريقه بين ما كان مصدره الشهوة وما كان الكبر من الذنوب! وتأمل أوجه الفرق بين معصية آدم ومعصية إبليس وكيف أن خطأ الشهوة أهون.
يمكن الخروج من هذه المقدمات جميعًا إلى فلسفة الشريعة الإسلامية في العقوبات، إذ إن العقوبة الدنيوية تكون أساسًا للبغي والعدوان في حق العباد، حتى تحفظ للناس أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، وأما الذنوب والآثام فهي ضمن حق الله، والأصل أن عقابها في الآخرة، إلا أن للآثام حالات معينة تصل للعقوبة، وذلك إن ارتبطت بشيء آخر غير الإثم ذاته، بأن يلابسها بغي على الفرد أو المجتمع.
ومن هنا نفهم عدم تقرير القرآن لعقوبة دنيوية لإثم الخمر، وبالتالي فتلبسه بأي بغي أو عدوان على الفرد أو المجتمع يجعل له عقوبة دنيوية. ومن هنا أيضًا يمكن أن نفهم حالة الاختلاف بين عقوبة إثم الزنا وبقية العقوبات، منها الشروط المشددة في إثبات الفاحشة، باشتراط أربعة شهود، والشروط المشددة في الشهادة بأن يكونوا رأوا فعل الفاحشة ذاته، لا أن يكون ظنًا أو خلوة أو غيره، ومنها الترغيب الكبير بالستر وتفضيله على الشهادة، فهذه الفروق لم تأت عبثاً وإنما لها حكمة جليلة، وهذه النقاط المتربطة بهذه العقوبة تذهب بنا إلى معنى يريده الإسلام من وراء ذلك، فالعقوبة الدنيوية ليست مقصودة لذات الإثم والفاحشة، إذ لو أراد عقوبة لذات الإثم لكان مشابهًا لمن قبله، ولما شدد في شروط إثباته ولما رغب بالستر فيه، وما يمكن استنتاجه من ذلك هو ألا تصل الفاحشة إلى سطح المجتمع فتكون ظاهرة علنية فيه، وأن لا يلابس الإثم بغي على الفرد والمجتمع، فإن حصل ذلك استحق العقوبة.
لو أن المجتمع تعامل بهذا المنظور في التعامل مع الإثم والبغي أو مقدماتهما فإننا نستطيع تجفيف جذور الاستغلال والابتزاز الحاصل في مجتمعاتنا، لأننا سنضع الخطأ في مكانه وبالحجم المناسب له، ونعتبر من ينشر أو يشهر مجرما في دائرة البغي والعدوان، وهو المربع الأخطر الذي ينبغي أن يستفز المجتمع لإيقافه، هذا هو المنظور الحكيم الذي أشار له القرآن وبتعزيزه يمكن التخفف من مشكلات كثيرة.